البرلومة البدينة

ميرغني حسن الأحد مارس 07, 2010 7:49 pm

البرلومة البدينة
(إحدى رسائلي لودالعاقب)
عندما بدأت في قراءة ( الرسالة الجاغميرية) ..
أخذتني سطورها بعيداً في حنايا الذاكرة..
حيث كانت الأيام غضة .. والحياة أكثر دفئاً مع العشيرة والأحباب
وعبق المكان ..
غريبٌ جدُ أمر هذه الذاكرة.. فهي تحفظ أشياء تخالها قد سقطت بتعاقب الجديدين (الليل والنهار)..
لكن سرعان ما تمثل أمامك حية طر ية كأنك تحسها.. وفي هذه اللحظة وأنا أكتب إليك هذه السطور ..تطفر إلى الذاكرة بعض المواقف .. أذكر أنني قد زرتك ذات مرة في داخلية بحر الغزال .. وكان يشاطرك السكن بالغرفة شخص طويل القامة.. أصفر اللون .. أظنه يدعى (إبراهيم) وهو قد تخصص – على ما أذكر- في الإحصاء .. وقد اعتاد إبراهيم هذا أن يذهب إلى السفرة بكوبٍ ضخم لشرب الشاي .. ولما لم أجدك بالغرفة أخذتُ معه في الحديث .. وقد كانت بيني وبينه معرفة تؤهلني لشيءٍ من الهذر .. فسألته: وما تلك بيمينك ياابراهيم..(أقصد الكباية الضخمة) ففطن لسخريتي مجيباً: أولم تدر يا رجل القانون الذي يقول أن الأشياء توزع حسب أطوالها؟
Somethings are distributed according to length?
فانصرفت ضاحكاً من بعض ما توحي كلمة (الأشياء) ..
هذا الطراز من الطلاب الذين وهبهم الله بسطة في الجسم والعقل .. القادمين من حنتوب .. وخور طقت .. ووادي سيدنا.. والقوز.. والقضارف الجديدة.. من أبناء الكادحين (ملح الأرض) الذين لا يجدون ما ينفقون.. أولئك هم الذين يشقون طريقهم ويدخلون جامعة الخرطوم دخول الفاتحين.. (ياحليلم) وليتك أخي زرت جامعة الخرطوم اليوم لترى بأم عينك من الذي خلف القوم السابقين.. مجموعات من الغلمان هنا وهناك.. أو قل( الفراريج المحفحفة) التي وجدت مقاعدها مدفوعة الأجر بالدولار من طلاب الشهادة العربية و(الحناكيش) الذين لم يبلغوا الحلم بعد.
وإذا أخذتك الأقدام والأقدار إلى هناك .. فإنك تحس بغربة المكان أو كأنك مندوب أهل الكهف ليبتاع لهم شيئاً.. انفض سامر القوم .. فلا الطلاب طلاب.. ولا الأركان أركان .. أين منتدى الفلاسفة .. ومنابر الفكر والأدب .. بل أين السجال الراقي وأدب الخلاف ؟..لم يبق إلا عبق التاريخ الذي يفوح من مباني الجامعة العريقة..
واختفى أيضاً (عمر أومو) وعمك (مرغني) والحلبي العريان( أبوسجارة) وعثمان (الأرباب) الذي يزعم إنه يقلد حمد الريح..
واختفى (عقيد الخيل).. هؤلاء هم ظرفاء مدينة جامعة الخرطوم ومجانينها..
وهناك بساحة النشاط الجنوبية كان (يلعلع) اليساري الناحل الذي يرتدي بنطالاً من الجينز
وأغلب الظن أن ذلك البنطال لم ير الماء منذ السمستر السابق مواساةً للكادحين القابضين على جمر القضية ..كانوا يتفننون في الإعلان والترويج لأركانهم .. ومن بعض أراجيزهم وأشعارهم:
ألقاك وينِ؟ ما إنت طالعة
من بيت الخليفة وماشه لي ميز العساكر
ألقاك وين مع الأنبيا الراكبين تروبر
والصحابة الراكبين مواتر..
(الزملاء والزميلات.. طلاب وطالبات جامعة الخرطوم.. تلتقيكم الجبهة الديمقراطية في ركن للنقاش وذلك بعد قليل.. )
بل أين المنابر التي كانت تضج بالإبداع.. إبداع الهيلاهوب والجو الرطب ..

أقصد أقول شوال فحم
كبوه أُرررررر
في حوض لبن.. طلع سمك.. لكنو حي
وهنا بالقرب من (الكولر) تجد العبقري (الشاطح) الحاج الصديق أبو ضفيرة وهو يعالج إشكالات الرقم (13) ..
وهناك بجانب النيمة الظليلة بساحة كلية الآداب يقف البروف (عمر أومو) ليقيم ركنه..
هذا الركن كان يؤمه مجموعة من الطلاب المهرجين والمحبطين ..وكان هذا الركن تتحاشاه الطالبات وذلك لأن (أومو) غالباً ما يجنح للّغو وفاحش الكلام الذي يخدش الحياء..
وحديث الأستاذ أومو كان يتسم باللاموضوعية واللاوحدة في الموضوع ..
وهو يمتاز ببراعة نادرة في حشد متنافرات اللغة ..فإذا وقفت لتستمع إليه يخيل إليك إنك تستمع لهلوسة مريض مصاب بالملا ريا.. فلا تفهم شيئاً ..
وقد حكى لي بعض الأصحاب أن برلومة مسكينة جاءت على استحياء ..
لتستمع إلى (أومو) السفيه وبكل جد وحرص أخذت موقعاً أمامياً على الأرض.. وكانت البرلومة مفرطة في البدانة..
وما كان من المجنون الاّ أن غير الموضوع مشيراً إلى البنت قائلاً:
(هسع عليكم الله دي يلقو ليها كرسي وين؟!)..
فأسقط في يد الجميع ولاذت البرلومة البدينة بالفرار..
وأكثر ما كان يحيرني من أمر هذا المجنون إنه كان يكتب بالطين على جدران داخلية البركس عبارات غريبة ومضحكة في بعض الأحيان ..كان يستخدم بمهارة عالية خط الرقعة الأنيق ..
ومن تلك العبارات العصية علي الفهم(إعدام إجرام صفرة صالح)..
..
تمت مصادرة البركس وأصبح سكناً لطالبات ولاية الخرطوم..
وانفض سامر القوم..
وطارت الخفافيش البشرية في وضح النهار .. وبلا عودة..
وأطل علينا في آخر عهدنا بالجامعة رجلٌ ادعى النبوة أسمه (بانقا) ..
وكانت لذلك المتنبئ طرائف أذكر منها إنه قد أمّ مجموعة من الطلاب بمسجد الجامعة.. وبعد أن أكمل قراءة الفاتحة شرع في قراءة نشيد (جدا دي يلقط الحب ويجري وهو فرحانا) وما كان من المصليين إلا إن انفضوا من حوله وتركوه قائماً وهم يضحكون ..
..
ولا أنسى ذلك اليوم الذي ذهبتُ فيه إلى نادي الأساتذة برفقة اثنين من زملائي وذلك بعد أن علمنا أن شاعراً ضخماً يزور البلاد.. وسوف يقيم أمسية شعرية بالنادي..
ذهبنا والأشواق تسابق الخُطا لنستمع إلى الشاعر الفذ(مظفر النواب) وكنا حينها مولعين بالأدب ورجاله..
.. لم تأخذنا الحياة بعد في تفاصيلها كما هي الآن (أمبوبة الغاز فضت.. الولد عيان .. خالتي باللفة قالوا ركبتا زاغت ورح نكفر ليها ) وما إلى ذلك يا أخي .. نعم هذه هي الحياة التي نعيش ..ولابد أن نحياها كما هي.. لكن هنالك من التفاصيل السخيفة ما تجعلنا نحنُ دوماً إلى ذلك الزمن الجميل ..
إنفردت من صاحبي مستأذناً لأصافحك .. وأذكر إنك كنت عضواً في رابطة أدباء الجامعة..وقد كانت هنالك ترتيبات أمنية تتعلق بهذه الزيارة..
فعلمنا أن الأمسية قد تم إلغاؤها..لكن كان ذلك تمويهاً من الرابطة وأقيمت الليلة وتألق نجمها..
(لكن للأسف شربنا نحن المقلب حتى آخره) أذكر ذلك تماماً .. وماذا بعد هذا يا أخي (أبو بكر)..
عندما بدأت أكتب (الأوتار) .. في حقيقة الأمر لم أكن أنوي أن أكمل ما سقط عنك سهواً .. إذ أن (الرسالة الجاغميرية) يغلب عليها الطابع الشخصي في سرد الذكريات..وكتاب الأيام للدكتور طه حسين يحوي ثلاثة أجزاء كلها جاءت لتعالج (الأنا) بكل إيحاءاتها وانفعالاتها وتفاعلها مع الآخر..
.. الرسالة الجاغميرية كانت بحق قطعة فنية رائعة لا ينقصها إنها لم تعالج تفاصيل مجتمع بأكمله..بل كل ما في الأمر إنني أحسست وأنا بين سطورها إنني في حلم جميل .. وفجأةً صحوت من نومي بنهاية الرسالة ..
فتمنيت لو أنها تواصلت في هذا السرد الأنيق بلانهاية..
وبكل صراحة .. الرسالة ألهمتني أن أكتب .. فكتبت..
وفي بعض الأحيان أحاول أن أكتب بذات الإيقاع .. لذلك اخترت لها هذا الاسم (أوتار الجاغميرية).. هذا من ناحية ..
ومن ناحية أخرى .. كانت (الأوتار) سانحة للبوح ببعض ما يجيش بالخاطر من امتنان للأسرة الكريمة الفاضلة(أسرة عبدا لقادر العاقب )..العم العميد طيب الله ثراه وأنزله منازل الصديقين والشهداء وبارك في ذريته إلى يوم القيامة..
وماذا بعد هذا يا أخي..
فإذا سألتني من الذي اغتصب أرض (ملاس الحبشي) ..فإنني أفضل ألاّ أخوض في هذا الأمر أكثر من ذلك..إذ أن محاسن الموتى أولى بالذكر من سوءاتهم.. فقد توفي الرجل إلي رحمة مولاه منذ سنين عددا.. نسأل الله له المغفرة والرحمة ..أما أولاد العوض ود جاغمير ..وتلكي صالح تلكي.. وفاطنة كٍشات وبقية الذين يشكلون المنظومة.. فإن خير من يجيبك عنهم فهو الحنفي المكي البكري الفقيه العارف بديموغرافيا المكان.. وأكرم به من رجل.. وماذا بعد كل هذا يا أخي..
اطبع قبلة حرّى –نيابةً عني- على الجبين الوضئ (أحمد أبو بكر عبدا لقادر العاقب).
ونلتقي..

ميرغني حسن بابكر
كوستي
خريف 2005م