المواضيع الأخيرة
المدن وثقافة التواصل في السودان
صفحة 1 من اصل 1
المدن وثقافة التواصل في السودان
بسم الله الرحمن الرحيم
ورقة بعنوان :
المدن وثقافة التواصل في السودان
1504-1820م
ورقة قدمت في مؤتمر جامعة فلاديفيا الدولي في الاردن
إعداد :
الدكتور الطاهر مصطفى محمد صالح
رئيس قسم أصول التربية وعلم النفس التربوي
كلية التربية - جامعة إفريقيا العالمية
2009م
المدن وثقافة التواصل في السودان
1504 – 1820م
تمهيد :
يعتبر الاجتماع الإنساني ظاهرة فطرية ، فطر الله الناس عليها ، ولعله من بداهة القول أن العمران البشري ارتبط في نموه وتطوره بعد هبوط الإنسان الأول على الأرض آخذاً في البحث عن المأوى والمأكل والمشرب والأمن والاستقرار إشباعاً لحاجاته المتعددة وعملاً بالتكليف الإلهي بتعمير الأرض واستغلالها ، قال تعالى : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " .
ومن ثم بدأ الصراع الأزلي بين الإنسان وبيئته للتكيف معها وتسخيرها لمصلحته فجاب السهول والجبال وضفاف الأنهار والسواحل سعياً وتدبيراً واستجابة لأمر الله تعالى ، حيث يقول جل شأنه: " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبؤاكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون من الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين " .
وتمثل البيئة انعكاساً طبيعياً لما توصل إليه الإنسان من رقي وتقدم ، وما حققه من رفاهية اجتماعية شاملة . وتؤكد الدراسات والبحوث الحديثة أهمية الارتباط الوثيق بين البيئة والإنسان وما ينشأ بينهما من علاقات . وأبدى العلم الحديث تفهماً لهذه العلاقات وبدأ يركز اهتمامه وجهوده ويوجهها نحو تفسير العلاقة المتبادلة وأثرها على السلوك الإنساني يرى هول (Hall 1966) أن كثيراً من أنماط السلوك الناتج عن عملية التواصل والتفاعل بين الأشخاص مرده إلى مكونات البيئة وقدرة الفرد على التكيف معها .
مشكلة الدراسة :
تعتبر عمليات التواصل أساس العلاقات الاجتماعية حيث يتم بواسطتها عملية التفاعل بين أعضاء الجماعة وتبادل الخبرات والتجارب المختلفة ، وتتباين أنماط العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بما يؤدي إلى تفاعل أعضاء المجتمع , وتبلور صيغ التواصل العقلي والعاطفي والاجتماعي والثقافي المادي والمعنوي بحيث ترتبط الجماعة بإطار سلوكي مقبول اجتماعياً , ويتضح ذلك بجلاء في مراكز التجمع الإنساني حيث تقوم المدن كمنارات سامقة تسعى بين الناس بالتواصل الثقافة فتصبح هي الحياة والحضارة والعمران .
أهمية الدراسة :
1. تبرز أهمية المدن ودورها في نشر ثقافة السلام .
2. توفر المعلومات عن العوامل التي ساعدت على نشأة المدن والمراكز الثقافية في السودان في الفترة (1504-1820م).
3. توضح دور المدن في تشكيل بنية الشخصية السودانية .
4. تلقي الضوء على مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية للمدن السودانية في الفترة (1504-1820م) وأثرها على الثقافة السودانية .
أهداف الدراسة :
تهدف هذه الدراسة إلى الوقوف على ظروف نشأة أهم المدن في السودان ، وتتبع حركة نموها وتطورها ودورها في تواصل الحركة الثقافية والاجتماعية ، في الفترة من (1540-1820م) .
كما يبرز دور المؤسسات التعليمية والثقافية في المدن السودانية في نشر ثقافة السلام .
إضافة إلى بيان مظاهر التفاعل والتسامح وتبادل الأفكار والآراء والاستمرارية والمواجهة والتكيف والتوافق وأثر كل ذلك في بناء الشخصية السودانية .
منهج الدراسة وأدواتها :
تستخدم الدراسة المنهج الوصفي ، والتاريخي الوثائقي، في مادة الدراسة بغرض الوصول لأهداف البحث وتحقيقاً لفرضياته .
فروض الدراسة :
تفترض الدراسة الآتي :
1. ثمة عوامل أساسية ساعدت على نشأة المدن في السودان في الفترة (1504-1820م) .
2. استدمت طبيعة الحياة في المدن بدعم ونشر قيم العدل والسلام .
3. ساهمت المدن منذ نشأتها في تشكيل بنية الشخصية السودانية .
4. ساعدت المؤسسات التعليمية في السودان في الفترة (1504-1820م) في رفد المدن بالصفوة من العلماء والمرشدين .
ترمي هذه الدراسة لتأسيس إطار نظري ثقافي يهتم بنشأة المدن في السودان وأثرها في إبراز ثقافة التواصل الاجتماعي والثقافي في الممالك والسلطنات الإسلامية في الفترة (1540-1820م) وتشمل مملكة الفونج التي تعرف بالسلطنة الزرقاء وسلطنات الفور ، تقلي ، والمسبعات .
ولعله من المفيد هنا لأهداف الدراسة أن نستجلي المقصود بالمدن والي تعني في اللغة : جمع مدينة . مدن ، مُدوناً بالمكان : أقام . ومدن المدينة أتاها . مَدَنَ المدائن : بناها . وتمدن : تخَلق بأخلاق أهل المدن . وتمدن : تنعم .
المدينة كمصطلح عمراني :
اختلف العلماء في تعريف المدينة وتعددت معايير تحديدها ؛ بين المعيار الإداري ، والاقتصادي ، والوظيفي كما اتخذ بعض المعماريين من نمط النسيج العمراني والمظهر الخارجي للتكلفة العمرانية تعريفاً للمدينة .
ولكن إذا أخذنا كل معيار بصورة منفردة فإنه لا يصدق على المدينة وغيرها من مراكز العمران البشري في منطقة جغرافية وأخرى .
ويحدد عالما الاجتماع سوركن وزيمرمان (Sorkain & Zimmerman) ثمانية عوامل تحدد مفهوم المدينة وهي الحرفة ، والبيئة ، والحجم والكثافة وتباين السكان ، والطبقة الاجتماعية والحراك الاجتماعي وعملية التفاعل الاجتماعي ويضيف العالم هيوسر (Hauser) في هذا الشأن عامل التقدم والتطور التقني والسيطرة على البيئة وتطور المؤسسات الاجتماعية المختلفة .
وأن اجتماع الناس يعتبر من ضرورات الحياة حيث ينظمون شئون حياتهم وكلما تكاثر أفراد المجتمع كان ذلك أدعى إلى تكامل مصالحهم وظاهرة الإجماع الإنساني بهذا المفهوم في رأي العلماء مصطلحاً مرادفاً لمصطلح المدينة التي لا تقوم إلا بالعمران الذي يتحقق باجتماع الناس وبما أن فطرة ألإنسان قد وجهته إلى العيش في جماعة فقد ألزمته الضرورة لتنظيم حياته وفقا لمتطلباته ، فظهرت المدينة التي عاصرت المجتمع خلال مراحل تطوره وحفظت تراثه وتاريخه وعبرت عن اتجاهاته بمختلف أشكالها ، فأشارت إلى أسلوب هندسة المباني وتخطيطها وعكست ملامح من علاقة الفرد بمجتمعه ، وعبرت عن ثقافته عبر العصور ، وإذا كانت المدينة قد عكست ماضي حضارة الإنسان ، فما مدى الدور الذي قامت به المدن الحالية وما أثرها في ثقافة التواصل.
ولقد بين العلم الحديث أهمية الارتباط الوثيق بين التكوين العضوي لطبيعة البيئة عامة والمشيدة على وجه الخصوص في التأثير على السلوك الإنساني . واتخذها علم النفس البيئي موضوعاً أساسياً لدراسته.
عطفاً على ما سبق يرى الباحث أن المدينة ظاهرة اجتماعية من ظواهر الحضارة الإنسانية نتجت من أثر تفاعل الوسط البيئي الذي يعيش فيه الإنسان يؤثر ويتأثر به ، وأن إشباع حاجاته الأساسية والثانوية تمثل أهدافاً أساسية لإنشائها وكما تتصل بهذه الحاجات أنشطة مختلفة تتكامل وتتفاعل فيما بينها لتحقق للإنسان الكفاية والرفاهية, لأن اختلاف موجهات وأهداف ووظائف وأنماط الاستخدام العمراني النابع من قيم المجتمع وعوامل ضبطه الاجتماعي وطبيعة مظاهر البيئة المحيطة به لا شك يؤدي إلى اختلال الموازين الاجتماعية وقيم التواصل والتكافل .
الثقافة : Culture :
الثقافة لغة تعني الفطنة والنشاط ، والحذق ، وثقف الرمح أي ساواه وعدّله ، أما الثقافة في الاصطلاح فقد تناولها كثير من العلماء كل من وجهة نظره ، ويرى "تايلور" Tylor أن الثقافة بمعناها الواسع تعني الكل المركب ، الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنون والقانون والعرف وكل المقدرات والتي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع.
ويجمع الباحثون على أن تعريف تايلور يتصف بالبساطة والشمول ، وتظهر البساطة كذلك في التعريف الذي قدمه كلباتريك Kilbatrik الذي يعرف الثقافة بأنها : " كل ما صنعته يد الإنسان وعقله من أشياء ومظاهر البيئة الطبيعية .
وينحو هذا التعريف لإعلاء جانب السلوك في الثقافة إذ يقول إنها : " طرق الحياة المختلفة التي توصل إليها الإنسان عبر التاريخ وفي وقت معين , والتي تشكل وسائل إرشاد موجهة لسلوك الأفراد في المجتمع ". ويبين تعريف كالكهون Kalkahon رأياً معقداً في الثقافة حيث يؤكد على الجوانب الصريحة أو الضمينة في الثقافة وعلى أنها أسلوب حياة ، كما يهتم بالجانب التعليمي والإرشادي في بيئة الثقافة .
ويتناول مالك بن نبي تعريف الثقافة في إطار الحضارة العربية والإسلامية إذ يقول بأنها مجموعة من الصفات الخلقية ، والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته ويتمثلها من بيئته التي ولد فيها، والثقافة بهذا المفهوم هي المحيط الذي تتشكل فيه طبيعة الفرد وشخصيته .
وكما عرفتها إحدى مؤتمرات {اليونسكو} منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة بأنها : " جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه أو فئة اجتماعية بعينها . وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات " . ثم تضيف أن الثقافة هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته ، وهي تجعل منه كائناً يتميز بالإنسانية المتمثلة في القدرة على النقد والالتزام الأخلاقي . وعن طريق الثقافة نتشرب القيم ونتمثلها وهي الأداة التي تمكن الإنسان من تحقيق ذاته .
ونخلص مما سبق إلى أن الثقافة تعني مجموع العناصر التي تتكون منها حضارات الشعوب في جانبيها المادي والمعنوي الفكري والوجداني الذي يعيشه مجتمع من المجتمعات . وهي الوعاء الذي يستمد منه المجتمع أهدافه التي ينشئ عليها صغاره ترسيخاً لقيمه ومعاييره وتتولى وسائط التنشئة النظامية والمجتمعية تبسيط هذه الثقافة وتنقيتها من الشوائب ونقلها من جيل إلى جيل .
خصائص الثقافة :
يمكن تحديد بعض خصائص الثقافة من خلال تعريفاتها المتعددة بصرف النظر عن محتواها من العناصر ، إضافة إلى ما خلصت إليه البحوث والدراسات في مجال العلوم الاجتماعية ، في الآتي :
1. الثقافة عملية إنسانية خاصة بالإنسان وتميزه عن الحيوان.
2. الثقافة ظاهرة عامة في المجتمعات الإنسانية ورغم ذلك لكل مجتمع ثقافته المميزة
3. للثقافة جانبها المادي وجانبها المعنوي .
4. يكتسب الشخص ثقافة مجتمعه من خلال عملية التنشئة الاجتماعية.
5. عناصر الثقافة متفاعلة ديناميكية ومستمرة .
6. الثقافة نسق معقد لاشتماله على عدد كبير من السمات المادية وغير المادية .
وظائف الثقافة :
يسعى الإنسان في صراعه مع الطبيعة إلى إحداث التكيف معها متأثراً ومؤثراً فيها تيسيراً لحياته ، وهنا يؤكد أن الثقافة هي أداته في عملية التواصل والتكيف والحياة . ويذكر عبدالله الرشدان أن الثقافة تتسم بوظائف أساسية هي :
1. تمد الأفراد بمجموعة الأنماط السلوكية لتحقيق حاجاتهم وضمان استقرارهم .
2. تتيح فرص التعاون للأفراد فيما بينهم من خلال النظم الاجتماعية.
3. تساعد على تحقيق التكيف والتفاعل وتحقق الوحدة الثقافية والتجانس .
4. تساعد على إبراز حاجات جديدة وتبتدع وسائل إشباع هذه الاحتياجات كالاهتمامات الثقافية ، والجمالية والدينية .
5. التنبؤ وتوقع الأحداث والمواقف الاجتماعية المحتملة .
السمات المشتركة بين الثقافات البشرية :
وبالرغم من أن لكل مجتمع إنساني ثقافته الخاصة إلاّ أنه توجد بعض الصفات المشتركة في ثقافات المجتمعات البشرية ، منها :
أ) وجود مستوى فني لكل ثقافة في طريقة وضع الأشياء والاستفادة منها.
ب) النظم الاجتماعية ، ومنها ، النظام التربوي ، والإداري ، والسياسي ، والديني .
ج) البناء الاجتماعي فكل مجتمع يحوي فئات مختلفة حسب الجنس والعمر ونظام القرابة ، والسكن ، وتصنع كل ثقافة قيماً ومعانٍ معينة.
د) الضوابط الاجتماعية .
لكل ثقافة معاييرها وضوابطها التي توجه وتحكم بها سلوك أعضائها ويتم غرسها عن طريق وسائط التنشئة الاجتماعية الرسمية وغير الرسمية .
الثقافة والشخصية :
يعتبر مفهوم الشخصية من الموضوعات البالغة التعقيد في مناهج ومقررات العلوم السلوكية ويواجه العلماء صعوبة في تعريف مصطلح الشخصية .
يشير المعنى العام إلى أن الشخصية تشمل كل الصفات المميزة للفرد من خلال الممارسة العامة للسلوك في أوجه الحياة المختلفة ، فيوصف الفرد بأنه مقبول أو متسلط أو انطوائي إلى غير ذلك .
ويأتي تباين تعريف الشخصية لاختلاف اتجاهات العلماء الفكرية ويذهب جوردون ألبرت معرفاً الشخصية بأنها : " التنظيم الديناميكي في الفرد لجميع مظاهر التكوينات الجسمية والعقلية والنفسية والاجتماعية التي تحدد الأساليب التي يتكيف بها الفرد مع بيئته " .
ويحدد بودون Boudon السمات الأساسية للشخصية في مجتمع ما بطابع الثقافة ويرى كاردينير Kordiner أن كل نظام اجتماعي ثقافي يتميز بشخصية مرجعية فالأنا هي عبارة عن ترسيب ثقافي .
التواصل الاجتماعي :
يشير مصطلح التواصل الاجتماعي في العلوم السلوكية باعتباره أحد عمليات التفاعل الاجتماعي Social interaction إلى العلاقة المتبادلة بين طرفين والتي تجعل من لسوك كل طرف من طرفي التفاعل الاجتماعي معتمداً على سلوك الطرف الآخر ، وتدرس هذه العمليات نوعين متداخلين من العمليات النفسية يعتمد على منها على الآخر . وبمعنى آخر يشير التواصل إلى انفتاح الذات على الآخر في علاقة حية مستمرة .
وثمة فرق بين الاتصال والتواصل ، ففي الاتصال تبنى العلاقة على أساس رغبة من أحد الطرفين تجاه الطرف الآخر وقد يستجيب ويتفاعل مع الرغبة ، أو قد يقف بعيداً ولا يستجيب . أما في التواصل فإن التفاعل أو الرغبة في المشاركة تحدث من كلا الطرفين وتنشط باتجاه تحقيق أهداف معينة ، وعليه فإن كل ما يتصل بانتقال الأفكار والمعلومات من فرد إلى آخر أو من جماعة إلى أخرى ضمن هذه العملية ، سواء أكانت هذه الأفكار والمعلومات ذات طبيعة اجتماعية أو ثقافية ، أو علمية ، وسواء كانت تتصل بالناس أنفسهم أو بالبيئة التي يعيشون فيها ، أو حتى بتواصل الإنسان مع نفسه ، وفي هذه الحالة تكون عملية التواصل باطنية داخلية تماماً ، بحيث تتم بين الفرد وذاته كما هو الحال عندما يدرس ذاته (أفكاره ، وآراؤه الخاصة ) ويضعها موضع التحليل والنقد والمحاسبة . وتعتبر اللغة المنطوقة والمكتوبة والرمزية أداة تواصل واتصال لنقل الأفكار والثقافات . ويفصل بيلز ويُقسِّم أنواع التواصل الاجتماعي إلى :
1. الاتصال الشفاهي عن طريق اللّغة .
2. الإشارات الحركية .
3. حركات الجسم المختلفة .
4. تعبير الوجه .
5. الأزياء والرموز .
مملكة الفونج :
بدأ الاتصال والتواصل بين السودان والبلاد العربية والإسلامية التي توطد ت فيها أركان الثقافة الإسلامية منذ زمن بعيد في الحجاز ، ومصر ،والمغرب ، واليمن ، وبلاد الشام إضافة إلى مناطق غرب وشرق أفريقيا وبدأ الأثر الثقافي يشق طريقه بتؤدة متدرج الخطى في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي ، واشتد اثر الثقافة وتنوعت مظاهرها في مطلع القرن السابع عشر وأحدثت أثرا بالغاً في بنية المجتمع السوداني الذي انفرد بطبيعة خاصة ساعدت علي نمو وتطور الحركة الثقافية والأخذ بيدها والعمل علي دفعها. وكان لقيام الممالك والسلطنات الإسلامية دورها في الإقبال عليها وتبنيها وامتثالها لقيم ومبادئ الثقافة الإسلامية .
نشأت مملكة الفونج كأول نظام حكم يتبنى الثقافة الإسلامية في السودان في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي على إثر اتفاق بين الفونج بقيادة عمارة دونقس والعرب بقيادة الشيخ عبدالله جماع زعيم قبيلة العبدلاب العربية . وامتدت حدودها من الشلال الثالث شمالاً حتى جبال فازوغلي جنوباً ومن سواكن على البحر الأحمر شرقاً وحتى النيل الأبيض غرباً ، وكانت سلطنة الفونج تتكون من مجموعة ممالك ومشيخات ، ومنها ما خضع للفونج رأساً ومنها ما خضع لهم بواسطة العبدلاب , والتي خضعت للفونج رأساً هي مشيختا خشم البحر والحمدة، ومملكتا الحلنقة وبني عامر . ولما دانت لهم بواسطة العبدلاب مشايخ وممالك متعددة في الجزء الشمالي من بلاد السودان وهي الجعليين والمناصير والميرفاب والشايقية والمناصير .
كان لانتقال السلطة للعرب أثره الفعّال في اختفاء بعض التقاليد الإفريقية الموروثة والطقوس المتجذرة ، إلاّ أن بقاء السلطة الدينية إلى جانب السلطة الدنيوية التي ظلت قائمة وتولى شيخ القبيلة تصريف أمورها يساعده مجلس من المشايخ يختص بألأمور الخارجية أما المسائل الداخلية فهي من اختصاص شيخ المشايخ الذي عُرف في سلطنة الفونج بأسم (المك) أو (المانجل) واستمر حكم الفونج من سنار وقري زهاء الثلاثة قرون من (1504-1762م) إلى أن ضعفت الدولة بسبب الفتن وضعف الحكم وانتشرت المحسوبية والفتن بين الحكام .
ويمثل عصر دولة الفونج أزهى العصور التي ازدهرت فيها مظاهر الحضارة الإسلامية التي عمت البلاد بفضل اهتمام ملوكها بوفادة العلماء من مراكز العلم الإسلامية في الحجاز ومصر وبغداد والمغرب ، وانتعاش حركة دينية إسلامية على أيدي صفوة من العلماء أمثال أولاد جابر الذين تعلموا بالأزهر وأنشأ تلاميذهم المدارس في مناطق مختلفة من السودان في أبي حراز والهلالية ، كما اشتهر الركابية في خرسي في كردفان والصبابي شمال الخرطوم وفي القوز الذي عرف بقوز العلم. وبرز لاحقاً رجال من المتصوفة في القوز بالقرب من شندي وعرف بقوز العلم والذي أمّه الطلاب من منطقة البديريه والشايقية في شمال السودان ومن علماء مدرسة القوز أبو سنينة والمضوي المصري وبدوي أبو دليق وباسبار السكري . ويذكر حسن مكي أن كتاب طبقات ود ضيف الله يكشف عن أهمية الحركة الفكرية في تكيف دولة الفونج ودور رجال التعليم والدعاة في إقامة تلك الدولة ويؤكد تنامي الحركة الفكرية وتأثيرها على مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويكفي أن هذا الكتاب قد أشار لسير ة 360 عالماً من أهل العلم والدعوة ويؤكد ذلك حب وتعلق المجتمع السوداني بالعلم والعلماء الذين أرسوا دعائم حركة الدعوة والتعليم في دولة سنار .
حرص ملوك الفونج على الالتزام بآداب الإسلام ، وكان الملك قائماً على أساس تحلي الملوك بالخلق الإسلامي الفاضل ، وحث رعاياهم على الصلاة ووقف حركة البيع والشراء في الأسواق وإغلاق المتاجر في أوقات الصلاة ، وكان من عادة الملك أن يجوب مملكته متفقداً أحوال الناس باستمرار حتى لا يفقد حاسة الاتصال الميداني بالناس والتعرف على قضاياهم ومشاكل مملكته .
كذلك لم يستطع الفونج أن يهملوا التقاليد التيّ ورثوها في نظم الحكم ومظاهر الحياة إلاّ أنّ سيادة أثر الثقافة الإسلامية الخالصة في جوهرها ومظهرها قد أدت إلى قيام حركة البعث الإسلامي في السودان وبهذا استرد الفرد ذاتيته وكيانه في المجتمع كما شعر بحريته بتخلصه من القهر والتسلط الذي مارسه الأقدمون من الحكام وزالت الفوارق وصار يتعامل مع حكامه بموضوعية عملاً بما كفله الإسلام له وازدهرت المملكة على عهد حكامها الأقوياء أمثال الشيخ عجيب المانجلك ابن الشيخ عبدالله جماع الذي كان حريصاً على نشر العلم فقد أنشأ ثلاثة رواقات لإيواء الطلاب في مراكز العلم في مكة والمدينة واهتم بجانب القضاء . وأصبحت سنار مركزً علمياً شامخاً تطلعت إلى مناطق السودان في الشرق والغرب .
كما امتدت حركة البعث الإسلامي إلى بلاد الجوار الإفريقية في إثيوبيا حيث اشتعلت حركة الجهاد في هرر بقيادة أحمد إبراهيم الحران (1524-1542م) وكان لها الفضل في تحرير أجزاء كبيرة من مملكة الحبشة ووصلت جيوشه إلى غندار وشارفت الحدود السودانية حتى تخوم مدينة كسلا .
ونستطيع القول أن أهم ما يميز هذه الحقبة الاستقرار والأمن واستتباب الحكم الذي أدى إلى انتشار الثقافة الإسلامية وقيام المساجد ودور العلم التي تحلق حولها الطلاب واستزادوا من العلم وشدوا الرحال إلى العلماء في أرجاء البلاد . وبذلك زاد الاهتمام بتحفيظ القرآن والعلوم الإسلامية في المساجد والخلاوى وكانت الخلوة (والمَسِيدْ)(*) هي الوحدة التعليمية والثقافية باعتبارها رمزاً تعليمياً وتربوياً إسلامياً , وهي المراكز التي تجمع حولها السكان وبمرور الزمن تطورت إلى مستوطنات بشرية قامت حولها المدن التي كان لها دور فاعل في نشر الثقافة الإسلامية ، ومن أشهر المدن العلمية والتربوية التي نشأت حولها المراكز هي.
المدن الساحلية :
قامت في ساحل البحر الأحمر مدن مثل عيذاب وسواكن بفضل الاتصال التجاري والثقافي والحضاري ، وذاع صيت عيذاب كميناء هام بعد الحروب الصليبية وعلبهم على بلاد الشام وفشل الفاطميين على حماية طرق الحج عبر سينا وفد إليها العلماء من فارس والحجاز واليمن ومصر ، وكان مسجدها الجامع يمثل بؤرة الإشعاع الديني والثقافي وقد انداح أثره إلى الداخل في مملكتي المغرة وعلوة ويذكر ابن بطوطة أن العنصرين السائدين في المدينة هما البجة والنوبة ، وقد وصفت عيذاب بأنها باب مكة واليمن والنوبة بل إن أحد قضاة عيذاب وهو الفقيه عبدالرحمن الكندي الشناوي دخل إقليم التاكا واستقر به .
مدينة سواكن :
حكمها أشراف مكة حيث آلت لهم عن طريق المصاهرة ، وكان لهم قوة تحميها من البجة أولاد كاهل وعرب جهينة ، واستولى العثمانيون عليها وأصبحت تابعة لهم وقد أسهمت سواكن في رفد حركة الإسلام في الداخل وورثت مجد عيذاب ورسالتها وانفتح المجال واسعاً لدخول العرب والمسلمين والنزوح إلى الداخل ومخالطة الوطنيين واستغلال موارد البلاد الاقتصادية مما أدى إلى تزاوج العنصرين وأسلمت قبائل الحدارية أقوى قبائل البجة ، وفي منتصف القرن الخامس عشر زادت الهجرات وأصبحت تشكل حزاماً كبيراً نحو مملكة علوة وأسست القبائل العربية مدينة أربجي التي أسسها حجازي بن معين قبل ثلاثين سنة من سقوط سوبا .
مدينة دنقلا العجوز :
أما في شمال السودان فقد نشأت مراكز ثقافية كان لها دورها الفعال في التواصل الاجتماعي والثقافي وعلى رأسها مدينة دنقلا العجوز التي انطلقت منها المدارس القرآنية التي غرست بذرة العلوم الإسلامية ومنها انطلقت إلى الداخل ، وأخذت دنقلا مكانتها بعد سقوط علوة وقيام سلطنة الفونج ، فانتشرت فيها المدارس والمساجد التي تدرس علوم الدين من القرآن الكريم والحديث ، منها المدرسة التي أسسها محمد عيسى سوار الدهب ودرس فيها التوحيد والتجويد وعلوم الحديث . ثم انتشرت مراكز أخرى عديدة في المنطقة في الشمال وحتى أربجي جنوباً .
مدرسة نوري ببلاد الشايقية :
أنشأ إبراهيم البولاد أول مدرسة قرآنية في قرية ترنج بالقرب من نوري ، وقد اشتهرت بعد ذلك وقصدها طلاب العلم من أرجاء البلاد ، ثم أسس أخوه عبدالرحمن بن جابر مدرستين في كورتي ، كما كانت لأختهم فاطمة مدرسة بالدفار أمّها طلاب عديدون ، ثم انتشرت علوم القرآن بديار الشايقية ، حتى صار أكثر الناس على إلمام بالقراءة والكتابة وحفظاً للقرآن الكريم ومعرفةً بعلوم الدين ، وشهد بذلك الرحالة بوركهارت الذي زار المنطقة عام 1813م وذكر باحترامهم للعلماء ، وقد كانت مدارس أولاد جبار تعني بالعلوم الدينية والرياضيات والفلك ، وقد بلغ آثر علومها حتى دار الأبواب والدامر الحالية ولسنار . وأنشأ أولاد حمدتو مركزاً تعليمياً قرآنياً بنوري كذلك واهتموا بتدريس القرآن ، وتعليم أحكامه .
مدرسة الحمدتياب بنوري :
أسسها أولاد حمدتو بموطنهم نوري وأم بكول بديار الشايقية ، ثم رحل بعضهم إلى عطبرة ، ويرجع تاريخ هذه المدرسة القرآنية لعبدالرحمن ولد حمدتو ، وقد اهتم شيوخ هذه المدرسة بتحفيظ القرآن الكريم وتدريس أحكامه .
مدرسة عبدالرحمن وحد حاج الدويحي بتنقاسي :
أنشأها في بلده ودَرَسَ فيها القرآن الكريم واهتم بتحفيظه ، مع تدريس علوم الدين واشتهرت وذاع صيتها فأمها الطلاب ، وقد عاصرة مدرسة عبدالرحمن ود حاج أخرى في تنقاسي أنشأها محمد بن عدلان اهتمت بتعليم القرآن الكريم .
مدرسة بربر:
كانت مدينة بربر منطقة تجارية ، وملتقى طرق ، فقصدها محمد بن علي بن كرم الكيماني المصري الشافعي المذهب وبنى فيها مسجداً درس فيه القرآن والفقه الشافعي ، وصار مركزاً عامراً قصده خلق كثيراً وتعلموا أصول الفقه والحديثً , وغدوا من بعد مشاهير ، ومنهم عبدالله العربي والقاضي دشين ، وإبراهيم العرضي ، وعبدالرحمن ولد حمدتو .
ثم تأسست مدرسة عبدالله الأغبش البديري الدهمشي لتعليم القرآن وتحفيظه وسائر علوم الدين ، وتعاقبت في التدريس فيها أولاده محمد وعبدالماجد، ثم من بعدهم أحفاده ، وظلت مدرسة الغبش القرآنية مناراً للعلم حتى عصرنا هذا .
مدرسة الدامر القرآنية :
أسسها المجاذيب ، وكانت العلوم الأساسية فيها تحفيظ القرآن الكريم وتفسيره وعلم التوحيد وقصدها الطلاب من برنو ودارفور وسنار وبلاد النوبة ، وبعد إجازتهم عادوا لأوطانهم وأشنأوا خلاويهم لتعليم القرآن وعلوم الدين .
مدرسة شندي القرآنية وقوز العلم :
مدرسة شندي القرآنية من المراكز التعليمية المهمة ، وأمها الطلاب من خلاوى الشايقية وغيرها وبرز من علمائها في تعليم القرآن الكريم وعلوم الدين المختلفة العالم أبو سنينة , والمضوي المصري , وانتشرت بمنطقة شندي مدارس قرآنية آخري وأبرزها مدرسة قوز العلم ومن علمائها بدوي أبو دليق وباسبار السكري وقد اتسعت فيها حلقات القرآن وكثر طلابها .
مدرسة كترانج :
أسسها عيسي بن بشارة الأنصاري ، ومن بعده درس فيها أولاده وأحفاده القرآن الكريم والعلوم الإسلامية ،ويرجع تاريخ هذه المدرسة إلي القرن العاشر الهجري ودرس فيها عدد كبير من الطلاب السودانيين والجبرتة من بلاد الحبشة ، وأدت دورها في تحفيظ القرآن الكريم ونشر علوم الدين واللغة العربية .
مدارس العركيين القرآنية :
أشتهرت منطقة النيل الأبيض بخلاوى القرآن التي أنشأها المسلمي وإبراهيم بن عبودي ومحمود العركي ، ويبدو أنها كانت مركزاً معروفا ً للتعليم القرآني قبل غارات الشلك عليها بسبب المجاعات التي اجتاحتها، مما جعل الحياة فيها غير مستقرة .
كما أسس محمود العركي مدرسة قرآنية بعد عودته من الأزهر كما أسس سبع عشرة مدرسة آخري بمنطقة النيل الأبيض لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم وعلوم الدين الأخرى .
مدارس الجزيرة وسنار القرآنية :
هاجر كثير من العلماء إلي الجزيرة وأسسوا فيها خلاوى القرآن التي أمّها الطلاب من مختلف الجهات . ومن أولئك العلماء إبراهيم بن نصير ، وقد كانت له مكتبتة عظيمة وأوقفها لطلاب العلم , وأسس حسن ود حسونة أكثر من عشر خلاوى قرآنية .
مدرسة أربجي:
كما أشتهرت مدرسة أربجي بتحفيظ القرآن الكريم وتدريس علوم الدين ومن علمائها أبو سنينة وحمد بن أبي زيد الحضري البصيلابي وشمو ودعدلان وكان بينهم وبين علماء سنار أتصال علمي وثيق . مدرسة أبو حراز القرآنية :
كان يدرس فيها القرآن الكريم وعلوم الدين علي عهد عبد الله العركي ، وفي عهد دفع الله بن إدريس بلغت خلاوي أبي حراز مئة وخمسين خلوة تدرس القرآن الكريم والعلوم الشريعة .
مدارس الخرطوم القرآنية :
موقع الخرطوم ونشأتها :
تقع الخرطوم علي الضفة الغربية للنيل الأزرق وتمتد في شكل مثلث رأسه في مقرن النيلين الأزرق والأبيض وقاعدته تمتد من الجريف إلي النيل الأبيض ، وموقعها عند خط عرض 36 -15 درجة شمالاً وخط طول 32-32 درجة شرا ًوترتفع 1352 قدماً فوق سطح البحر .
ويري المؤرخون أنها بدأت قرية صغيرة لصائدي الأسماك ، وجدت في التاريخ منذ أزمان سبقت قيام مملكة الفونج في عام 1504م ولكن لم تحظ بأي اهتمام إلا بعد قيام خلاوى القرآن بمنطقة الخرطوم التي أسسها إدريس بن علي المعروف بأرباب العقائد أو أرباب الخشن ، التي رحل إليها من جزيرة توتي وأوقد فيها نار القرآن . وأوقد نار القرآن وبدأ تعليم طلابه ، وأوقد نار القرآن وبدأ تعليم طلابه ، وبدأ عُمران الخرطوم , وظلت موطناً لطلابه وأحفاده ومن اجتمع إليهم ، واستمر بها تعليم القرآن وازدهرت فيها الخلاوي حتى سقطت دولة الفونج .
وقامت في تلك الحقبة ست مدارس قرآنية ذائعة الصيت أسسها الشيوخ وأمّها الطلاب وبقيت آثرها التعليمية والتربوية والاجتماعية باقية لفترة طويلة .
مدرسة اسلانج القرآنية :تقع الجزيرة إسلانج في شمال مدينة الخرطوم وقد أسس أول مسجد بها حمد النجيض الجموعي في عهد عجيب المانجلك , ودرس بها القرآن الكريم ومن بعده أبنه وآخرون , واشتهرت الجزيرة إسلانج بتعليم القرآن الكريم وأمها طلاب للعلم والمريدين للطريقة القادرية فتلك الفترة اشتهرت بتداخل التصوف وتعليم علوم الدين ، ففي عهد الأمين أم حقين السماني الطريقة أشتد اهتمامه بإحياء نار القرآن وزاد عدد طلابه ومريديه بهذه الجزيرة .
مدرسة الحلفايا القرآنية :
قبل قيام دولة الفونج أو في مستهلها اتخذ الشيخ البنداري الحلفاية مقراً لتعليم القرآن الكريم ، كما درس فيها إدريس ود الأرباب ، كما شهدت جهود أبناء عون الضرير لإنشاء المساجد والخلاوى وتعليم القرآن فيها . ومن أبرزها خلوة أبناء الفقيه أبو سرور الفاضلي ، كما أشتهر مسجد الحلفايا باستقطاب العديد من المشائخ والذين درسوا فيه لأوقات طويلة منهم موسي الجعلي وحمد بن حميدان وضيف الله ، وكانت العلوم الأساسية فيه القرآن الكريم وعلوم الشريعة .
مدرسة الصبابي :
حضر حمد ود زروق من حضرموت , وأنشأ خلوة في الصبابي لتعليم القرآن الكريم والتف حوله طلاب العلم من جهات مختلفة ، وممن درس القرآن الكريم عليه إدريس ود الأرباب .
مدرسة إدريس ود علي (أرباب العقائد) القرآنية :
بدأ تعليم القرآن بتوتي وحين انتقل إلي الخرطوم كثر طلاب خلوته وقد ازداد سكان الخرطوم وعمرت أسواقها ، وصارت لخلوته صيتاً جعل حلقة دراسية عامرة بالحيران والمريدين .
وقد اشتهر بتدريس العقائد وسمي لبراعته فيها (أرباب العقائد) وأتي طلابه من دار الفونج وبرنو ، ومن ضمن تلاميذه شيوخ اشتهروا بعلوم القرآن والشريعة , ومنهم خوجلي وحمد ود أم مريوم وفرح ود تكتوك وغيرهم ، وصار اسم مدرسته مدرسة مسجد ود أرباب , والذي هدمه الدفتردار حتى ينصرف عنه الطلاب ، ووجد الباحث لوحة أمام الجامع المعروف (بجامع فاروق) بالخرطوم تشير إلي أنه مسجد أرباب العقائد , ولكن حدث الباحث رجل مسن أن الشيخ أرباب العقائد بني مسجده وخلوته بالقرب من حلة القوز .
مدرسة حمد ود أم مريوم القرآنية :
أنشأ خلوته في الخرطوم بحري , واشتهرت وأمها طلاب كثيرون، وقد اتسعت حلقة درسه وأهتم بتدريس النساء حتى زاد عددهن علي الرجال , وتجاوز أثر هذه المدرسة فوصل إلي دارفور .
مدرسة القوز القرآنية :
تقع في الجهة الغربية من الخرطوم , وأسسها محمد بن سالم , والذي ينتسب من جهة أمه لأولاد جابر , وأهتم فيها بتحفيظ تلاميذه القرآن الكريم وتدريس علوم الدين .
سلطنة الفور :
قامت علي الأطراف الغربية من السودان الشرقي إقليم دارفور الحالي , والراجح أن قيام هذه المملكة كان في نهاية القرن السادس عشر الميلادي , ومدينة الفاشر هي عاصمة هذه السلطنة طوال تاريخها, وقد أهتم الملوك هذه الدولة بالدين الإسلامي واستجلبوا العلماء وأرسلوا التلاميذ إلي الجامع الأزهر بمصر لتلقي العلوم الدينية , وشجع سلاطينها دارفور العلماء من أجل تعزيز دولتهم فأقاموا الخلاوي التي كانت لها دورها في التنظيم الاجتماعي عند قبيلة الفور , ثم خضعت لنظم الحكم الثنائي التعليمية , وعرف الفور في بداية خلاويهم نظام الخلاوى المهاجرين والتي اهتمت بتحفيظ القرآن الكريم , ومن أبرز خلاوى الفور خلوة كريو وهي من مراكز علوم القرآن وخلوة قرية جديد السيل وخلوة الجوامعة بكوبي والتي درس فيها القرآن غرباوي الجامعي .
مملكة تقلي :
نشأت في منطقة جبلية بجبال النوبة في جنوب كردفان وصلها رجل فقيه متجول حوالي عام 1530م ، ويدعي محمد الجعلي الرباطابي ومعه آخر يدعي أبو هيامة , وكانت مملكة وثنية استقرا بها وقاما بالتبشير بالإسلام بين أهلها وقامت في المملكة المساجد وكثرت خلاوى القرآن الكريم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر .
انتشرت في مملكة تقلي الإسلامية الطرق الصوفية , وصار لكل طريقة خلاوى للقرآن الكريم ومساجد يشرف عليها أحد المشايخ , وتلك عناية بالقرآن وتحفيظه للطلاب وبعلوم الدين , كما اهتمت الأسر الكبيرة بتعليم القرآن الكريم لأفرادها من رجال ونساء فكانت توجد بالمنـزل الواحد (تقابتان) ، إحداهما للرجال والأخرى للنساء .
وقد انتشرت تقابات القرآن الكريم بجبال تقلي , حتى أن المتجول بين القرى ليلاً لا يحتاج لضوء بل يكفيه ضوء نيران القرآن , ومن أقدم خلاوى القرآن فيها خلوة محمد نجر بأم شطور وخلوة ود الأفندي .
مملكة المسبعات :
أما مملكة المسبعات فهي المملكة التي نشأت في إقليم كردفان ، وترجح بعض الروايات أنها قامت في الفترة التي تقع بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر بواسطة مجموعات عربية هاجرت واستقرت في تلك المنطقة ، وكانت مدينة الأبيض هي عاصمة هذه المملكة . والمتتبع لتاريخ هذه المملكة يجده عبارة عن سلسلة من الحروب بين أطراف ثلاثة هي الفور والفونج والمسبعات , وكان هدف طرف من الأطراف هو السيطرة علي إقليم كردفان . وهذا الأمر أدي إلي انعدام الاستقرار السياسي وبالتالي أدي إلي انعدام وجود هيكل إداري وأنظمة ومؤسسات سياسية أياً كان شكلها مضمون .
مملكة المسبعات هي أول مملكة سودانية تصل إلي عاصمتها جيوش الغزو التركي وتخضعها بالرغم من مقاومة ملكها (المقدوم مسلم) الذي واجه جيش الغزو التركي في معركة بارا عام 1821م . وفي عام 1883 تمكن جيش الأنصار من تحرير الأبيض من قبضة الحكم الثنائي , وظل هذا الإقليم تابع للدولة المهدية إلي أن جاء الإنجليز عام 1898م واستعمروا السودان.
انتشار الإسلام وتأصيل العقيدة :
الإسلام ظاهرة حضارية متكاملة ومتداخلة جاءت إلي السودان بكلياتها وانتشرت في الوقت الذي كانت هذه المنطقة مستعدة فعلاً لتقبل تغير حضاري جذري . فقد اعتنق السودانيون هذا الدين الجديد منذ بداية اتصالهم به كأفراد . وما يعرف عن الإسلام وانتشاره في السودان أنه جاء بدون سلطة سياسية وبدون حركة تبشيرية , بل جاء وانتشر تلقائياً بين الأفراد والجماعات والدلائل الأثرية في مواقع بلاد النوبة تشير إلي أن النوبيين أنفسهم قاموا بنشر الإسلام بعد أن تحولوا عن المسيحية وهذا التحول شمل فيما بعد مراكز القيادة المسيحية ونشأت المماليك الإسلامية.
رغم أن الممالك والسلطنات الإسلامية التي قامت علي أنقاض الكيانات المسيحية كانت ذات طابع إسلامي وملوكها أبدوا اهتمامهم البالغ بأمر الدين إلا أننا نجد أن العقيدة لم ترسخ في أذهان السودانيين , وهذا يرجع أساساً إلي أن الإسلام انتشر بواسطة التجار والبدو وهم جماعات تفتقر للمعرفة العميقة بالعلوم الفقهية المتعلقة بالدين الإسلامي , وقبل قيام الممالك والسلطنات الإسلامية هناك دور محدد لعبه بعض علماء الدين في تعميق العقيدة الإسلامية , إلا أن موجات العلماء تدفقت أثناء قيام الممالك الإسلامية , وأصبحت هناك مراكز علمية خاصة في دولة الفونج تخرج منها عدد لا يستهان به من الطلاب الذين تلقوا علوما دينية وهم بدورهم أصبحوا شيوخ لمراكز أخري وهكذا فضلا ًعن ذلك أرسلت مجموعات طلابية من سنار وأخري من دارفور إلي مصر لتقلي التعليم الديني في الأزهر الشريف وتكونتا ما يسمي بالرواق السنارية ورواق دارفور .
الطرق الصوفية :
بعد أن وجدت الطرق الصوفية طريقها إلي السودان أصبحت تلعب دوراً بالغ الأهمية في نشر وتعميق الإسلام حيث اتبعت هذه الطرق أسلوب تعليمي مبسط وجاذب يتمشي مع عادات ومزاج السودانيين , وكان شيوخ الطرق الصوفية من العارفين بالله والزاهدين في العبادة وحب الله ورسوله فمثلوا نموذجاً جيداً لرجل الدين الإسلامي ولذلك اجتذبت الطرق الصوفية المتعددة أعداداً هائلة من السودانيين تحت ألويتها وكانت نواة التجمع الصوفي شيخ الطريقة الذي يجتمع إليه الناس في أخوة مكونين جماعة روحية خالصة علي اختلاف مشاربهم، ويصبحون تحت لواء الشيخ جماعة واحدة تربط بينهم طريقة روحية أصلية تزرع القيم الفاضلة وتنمي شخصياتهم بما يحقق ذواتهم ومن هنا اكتسبت الشخصية السودانية أهم سماتها ، فكان الناس يفدون للشيخ إدريس ود الأرباب في العيلفون من دنقلا والمحس ، واتسع مكانه وتمدد, كما ألتف الناس حول الشيخ المجذوب في الدامر حتى أصبحت مشيخته أكبر مركز وأصبح أهلها أسرة واحدة .
وأخيراً يمكن أن نلاحظ أن الإسلام في السودان استطاع أن يستوعب الكثير من السمات السودانية ويتعايش مع هذا المحيط الخاص بما فيه من تنوع .
الخاتمة :
أخذ التيار المركزي الإسلامي حركة الثقافة الإسلامية في السودان وساعده علي انتشارها ، وانتقل المجتمع من وهدة تخلف الوثنية المضطربة إلى مجتمع يسعى للنماء والتطور ويستقي القيم والمبادئ من الشريعة الإسلامية التي تعتبر مرجعيته الأساسية . ونشأت ممالك وسلطنات في السودان كمملكة الفونج أو السلطنة الزرقاء وسلطنة الفور والمسبعات وتقلي وكان لها دورها في بسط قيم العدل والمساواة والحرية والسلام والأمن والتكيف والتوافق الاجتماعي بين الناس .
قاد الرواد المصلحون من العلماء والدعاة والمرشدين حركة التعليم ومفاهيمها الناهضة وساعدوا علي تركيز أصول الفكر الإسلامي وتطبيقاته في الحياة العامة وبهذا توحدت لغة التواصل حيث أصبحت اللغة العربية هي لغة التخاطب المشتركة في الفكر والثقافة بعد أن كانت هنالك لهجات متعددة .
وأصبحت مدارس العلم التي أنشاها الرواد والتي عُرفت بالخلوة ( الكتاب ) في دنقلا وسواكن وبلاد الشايقية ، والدامر ، وشندي ، وتوتي واربجي ، والعيلفون والحلفايا وكترانج وغيرها . أصبحت مراكز للتعليم تجمع حولها الناس وأصبحت نواة للعمران ازدهرة الحياة الاجتماعية ونشطت حولها التجارة وتأسست القرى والمدن .
شكلت الثقافة الإسلامية بنية الشخصية السودانية وأكسبتها السمات التي تميزها والتي تمثلت في بنائها البدنى والعقلي والنفسي والاجتماعي والأخلاقي والذي تفاعل مع الثقافات المكتسبة في حركة دينامكية متفاعلة وفاعلة في محيطها الاجتماعي .
المصادر والمراجع
سورة البقرة ، الآية 30 .
سورة الأعراف ، الآية 74 .
Hall 1966) The hidden dimension, new York double day
عبدالرحمن أحمد عثمان ، البنية الإفريقية والبنيات التحتية لكليات الاقتصاد .
الناصر أبو كروق ، مدينة عطبرة ، المطبعة الحكومية ، الخرطوم ، 2005 ، ص 16 .
لويس معروف ، المنجد في اللغة ، طبعة جديدة ، ب ، ت ، ص 752 .
شرف الدين إبر اهيم بانقا ، إدارة المدينة الإسلامية بين مفاهيم الأصل والعصر ، هيئة الأعمال الفكرية ، 2004م .
Wirth, Louis. Urbanism as a way of American Journal. Vol. 44, 1988, sociology.
عبدالرحمن أحمد عثمان ، مرجع سابق ، ص 47 .
موسى الأمين الزبير ، أضواء على التخطيط المدني ومشكلات الخرطوم الكبرى مثالاً ، مجلة دراسات إفريقية ، العدد 41 ، يونيو 2009م ، مركز البحوث والدراسات الإفريقية ، جامعة إفريقيا العالمية ، الخرطوم ، ص 139 .
Taylor. E Dward. BURNETT 1931 Primitive culture, London .
مالك بن بني ، شروط النهضة, ترجمة كامل مستكاوي وعبد الصبور شاهين , دار الفكر , القاهرة , 1969م , ص 125. .
إبراهيم ناصر ، علم الاجتماع التربوي وقضايا الحياة التربوية المعاصرة ، مكتبة الفلاح ، الكويت ، 1998م ، ص 93 .
عاطف وصفي ، الأنثربولوجيا الثقافية , دار الثقافة بيروت 1978 , ص 92.
علي أسعد وطفه , علم الاجتماع التربوي وقضايا الحياة التربوية المعاصرة , مكتبة الفلاح , 1998, ص 93.
المرجع السابق , ص95.
سميرة أحمد السيد , علم اجتماع التربية , دار الفكر العربي , القاهرة , ط1 , 1993م, ص 43-44..
مرجع سابق , ص 100-101.
مرجع سابق , ص 48.
. يعرفها المؤرخون بالسلطنة الزرقاء أو سلطنة الفور .
حسن مكي محمد أحمد ، ص 38 – 39 .
نفسه ، ص 40 – 42 .و Adams W. Y. Nubia as a Corridoor pf Africa , London, 1977, p. 16 – 60.
(*) يعادل (المسيد) الكُّتاب في الدول الإسلامية .
حسن إبراهيم حسن ، تاريخ السودان الحديث ، الجامعة المفتوحة ، 2006م ، ص 38 .
يحي محمد إبراهيم ، تاريخ التعليم الدين في السودان, مطبعة جامعة الخرطوم , 1979, ص 18 .
محمد ود ضيف الله ، الطبقات ، تحقيق يوسف فضل حسن ، 1982م ، ص 81 ، ص 142 .
أحمد محمد سيداب ، دراسات سودانية ، جامعة بخت الرضا ، 2007م ، 39 – 42 .
قرية تقع شمال الخرطوم بحري والآن من أحيائها الراقية
ابن خلدون ، المقدمة ، دار الجيل ، د . ت ، ص 2 .
حسن مكي محمد أحمد ، مرجع سابق ، ص 21 ، ص 247 .
سعاد عبدالعزيز أحمد ، قضايا التعليم الأهلي في السودان ، ج1 ، دار جامعة الخرطوم للطباعة ، 1990م ، ص 15 .
ورقة بعنوان :
المدن وثقافة التواصل في السودان
1504-1820م
ورقة قدمت في مؤتمر جامعة فلاديفيا الدولي في الاردن
إعداد :
الدكتور الطاهر مصطفى محمد صالح
رئيس قسم أصول التربية وعلم النفس التربوي
كلية التربية - جامعة إفريقيا العالمية
2009م
المدن وثقافة التواصل في السودان
1504 – 1820م
تمهيد :
يعتبر الاجتماع الإنساني ظاهرة فطرية ، فطر الله الناس عليها ، ولعله من بداهة القول أن العمران البشري ارتبط في نموه وتطوره بعد هبوط الإنسان الأول على الأرض آخذاً في البحث عن المأوى والمأكل والمشرب والأمن والاستقرار إشباعاً لحاجاته المتعددة وعملاً بالتكليف الإلهي بتعمير الأرض واستغلالها ، قال تعالى : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " .
ومن ثم بدأ الصراع الأزلي بين الإنسان وبيئته للتكيف معها وتسخيرها لمصلحته فجاب السهول والجبال وضفاف الأنهار والسواحل سعياً وتدبيراً واستجابة لأمر الله تعالى ، حيث يقول جل شأنه: " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبؤاكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون من الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين " .
وتمثل البيئة انعكاساً طبيعياً لما توصل إليه الإنسان من رقي وتقدم ، وما حققه من رفاهية اجتماعية شاملة . وتؤكد الدراسات والبحوث الحديثة أهمية الارتباط الوثيق بين البيئة والإنسان وما ينشأ بينهما من علاقات . وأبدى العلم الحديث تفهماً لهذه العلاقات وبدأ يركز اهتمامه وجهوده ويوجهها نحو تفسير العلاقة المتبادلة وأثرها على السلوك الإنساني يرى هول (Hall 1966) أن كثيراً من أنماط السلوك الناتج عن عملية التواصل والتفاعل بين الأشخاص مرده إلى مكونات البيئة وقدرة الفرد على التكيف معها .
مشكلة الدراسة :
تعتبر عمليات التواصل أساس العلاقات الاجتماعية حيث يتم بواسطتها عملية التفاعل بين أعضاء الجماعة وتبادل الخبرات والتجارب المختلفة ، وتتباين أنماط العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بما يؤدي إلى تفاعل أعضاء المجتمع , وتبلور صيغ التواصل العقلي والعاطفي والاجتماعي والثقافي المادي والمعنوي بحيث ترتبط الجماعة بإطار سلوكي مقبول اجتماعياً , ويتضح ذلك بجلاء في مراكز التجمع الإنساني حيث تقوم المدن كمنارات سامقة تسعى بين الناس بالتواصل الثقافة فتصبح هي الحياة والحضارة والعمران .
أهمية الدراسة :
1. تبرز أهمية المدن ودورها في نشر ثقافة السلام .
2. توفر المعلومات عن العوامل التي ساعدت على نشأة المدن والمراكز الثقافية في السودان في الفترة (1504-1820م).
3. توضح دور المدن في تشكيل بنية الشخصية السودانية .
4. تلقي الضوء على مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية للمدن السودانية في الفترة (1504-1820م) وأثرها على الثقافة السودانية .
أهداف الدراسة :
تهدف هذه الدراسة إلى الوقوف على ظروف نشأة أهم المدن في السودان ، وتتبع حركة نموها وتطورها ودورها في تواصل الحركة الثقافية والاجتماعية ، في الفترة من (1540-1820م) .
كما يبرز دور المؤسسات التعليمية والثقافية في المدن السودانية في نشر ثقافة السلام .
إضافة إلى بيان مظاهر التفاعل والتسامح وتبادل الأفكار والآراء والاستمرارية والمواجهة والتكيف والتوافق وأثر كل ذلك في بناء الشخصية السودانية .
منهج الدراسة وأدواتها :
تستخدم الدراسة المنهج الوصفي ، والتاريخي الوثائقي، في مادة الدراسة بغرض الوصول لأهداف البحث وتحقيقاً لفرضياته .
فروض الدراسة :
تفترض الدراسة الآتي :
1. ثمة عوامل أساسية ساعدت على نشأة المدن في السودان في الفترة (1504-1820م) .
2. استدمت طبيعة الحياة في المدن بدعم ونشر قيم العدل والسلام .
3. ساهمت المدن منذ نشأتها في تشكيل بنية الشخصية السودانية .
4. ساعدت المؤسسات التعليمية في السودان في الفترة (1504-1820م) في رفد المدن بالصفوة من العلماء والمرشدين .
ترمي هذه الدراسة لتأسيس إطار نظري ثقافي يهتم بنشأة المدن في السودان وأثرها في إبراز ثقافة التواصل الاجتماعي والثقافي في الممالك والسلطنات الإسلامية في الفترة (1540-1820م) وتشمل مملكة الفونج التي تعرف بالسلطنة الزرقاء وسلطنات الفور ، تقلي ، والمسبعات .
ولعله من المفيد هنا لأهداف الدراسة أن نستجلي المقصود بالمدن والي تعني في اللغة : جمع مدينة . مدن ، مُدوناً بالمكان : أقام . ومدن المدينة أتاها . مَدَنَ المدائن : بناها . وتمدن : تخَلق بأخلاق أهل المدن . وتمدن : تنعم .
المدينة كمصطلح عمراني :
اختلف العلماء في تعريف المدينة وتعددت معايير تحديدها ؛ بين المعيار الإداري ، والاقتصادي ، والوظيفي كما اتخذ بعض المعماريين من نمط النسيج العمراني والمظهر الخارجي للتكلفة العمرانية تعريفاً للمدينة .
ولكن إذا أخذنا كل معيار بصورة منفردة فإنه لا يصدق على المدينة وغيرها من مراكز العمران البشري في منطقة جغرافية وأخرى .
ويحدد عالما الاجتماع سوركن وزيمرمان (Sorkain & Zimmerman) ثمانية عوامل تحدد مفهوم المدينة وهي الحرفة ، والبيئة ، والحجم والكثافة وتباين السكان ، والطبقة الاجتماعية والحراك الاجتماعي وعملية التفاعل الاجتماعي ويضيف العالم هيوسر (Hauser) في هذا الشأن عامل التقدم والتطور التقني والسيطرة على البيئة وتطور المؤسسات الاجتماعية المختلفة .
وأن اجتماع الناس يعتبر من ضرورات الحياة حيث ينظمون شئون حياتهم وكلما تكاثر أفراد المجتمع كان ذلك أدعى إلى تكامل مصالحهم وظاهرة الإجماع الإنساني بهذا المفهوم في رأي العلماء مصطلحاً مرادفاً لمصطلح المدينة التي لا تقوم إلا بالعمران الذي يتحقق باجتماع الناس وبما أن فطرة ألإنسان قد وجهته إلى العيش في جماعة فقد ألزمته الضرورة لتنظيم حياته وفقا لمتطلباته ، فظهرت المدينة التي عاصرت المجتمع خلال مراحل تطوره وحفظت تراثه وتاريخه وعبرت عن اتجاهاته بمختلف أشكالها ، فأشارت إلى أسلوب هندسة المباني وتخطيطها وعكست ملامح من علاقة الفرد بمجتمعه ، وعبرت عن ثقافته عبر العصور ، وإذا كانت المدينة قد عكست ماضي حضارة الإنسان ، فما مدى الدور الذي قامت به المدن الحالية وما أثرها في ثقافة التواصل.
ولقد بين العلم الحديث أهمية الارتباط الوثيق بين التكوين العضوي لطبيعة البيئة عامة والمشيدة على وجه الخصوص في التأثير على السلوك الإنساني . واتخذها علم النفس البيئي موضوعاً أساسياً لدراسته.
عطفاً على ما سبق يرى الباحث أن المدينة ظاهرة اجتماعية من ظواهر الحضارة الإنسانية نتجت من أثر تفاعل الوسط البيئي الذي يعيش فيه الإنسان يؤثر ويتأثر به ، وأن إشباع حاجاته الأساسية والثانوية تمثل أهدافاً أساسية لإنشائها وكما تتصل بهذه الحاجات أنشطة مختلفة تتكامل وتتفاعل فيما بينها لتحقق للإنسان الكفاية والرفاهية, لأن اختلاف موجهات وأهداف ووظائف وأنماط الاستخدام العمراني النابع من قيم المجتمع وعوامل ضبطه الاجتماعي وطبيعة مظاهر البيئة المحيطة به لا شك يؤدي إلى اختلال الموازين الاجتماعية وقيم التواصل والتكافل .
الثقافة : Culture :
الثقافة لغة تعني الفطنة والنشاط ، والحذق ، وثقف الرمح أي ساواه وعدّله ، أما الثقافة في الاصطلاح فقد تناولها كثير من العلماء كل من وجهة نظره ، ويرى "تايلور" Tylor أن الثقافة بمعناها الواسع تعني الكل المركب ، الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنون والقانون والعرف وكل المقدرات والتي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع.
ويجمع الباحثون على أن تعريف تايلور يتصف بالبساطة والشمول ، وتظهر البساطة كذلك في التعريف الذي قدمه كلباتريك Kilbatrik الذي يعرف الثقافة بأنها : " كل ما صنعته يد الإنسان وعقله من أشياء ومظاهر البيئة الطبيعية .
وينحو هذا التعريف لإعلاء جانب السلوك في الثقافة إذ يقول إنها : " طرق الحياة المختلفة التي توصل إليها الإنسان عبر التاريخ وفي وقت معين , والتي تشكل وسائل إرشاد موجهة لسلوك الأفراد في المجتمع ". ويبين تعريف كالكهون Kalkahon رأياً معقداً في الثقافة حيث يؤكد على الجوانب الصريحة أو الضمينة في الثقافة وعلى أنها أسلوب حياة ، كما يهتم بالجانب التعليمي والإرشادي في بيئة الثقافة .
ويتناول مالك بن نبي تعريف الثقافة في إطار الحضارة العربية والإسلامية إذ يقول بأنها مجموعة من الصفات الخلقية ، والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته ويتمثلها من بيئته التي ولد فيها، والثقافة بهذا المفهوم هي المحيط الذي تتشكل فيه طبيعة الفرد وشخصيته .
وكما عرفتها إحدى مؤتمرات {اليونسكو} منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة بأنها : " جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه أو فئة اجتماعية بعينها . وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات " . ثم تضيف أن الثقافة هي التي تمنح الإنسان قدرته على التفكير في ذاته ، وهي تجعل منه كائناً يتميز بالإنسانية المتمثلة في القدرة على النقد والالتزام الأخلاقي . وعن طريق الثقافة نتشرب القيم ونتمثلها وهي الأداة التي تمكن الإنسان من تحقيق ذاته .
ونخلص مما سبق إلى أن الثقافة تعني مجموع العناصر التي تتكون منها حضارات الشعوب في جانبيها المادي والمعنوي الفكري والوجداني الذي يعيشه مجتمع من المجتمعات . وهي الوعاء الذي يستمد منه المجتمع أهدافه التي ينشئ عليها صغاره ترسيخاً لقيمه ومعاييره وتتولى وسائط التنشئة النظامية والمجتمعية تبسيط هذه الثقافة وتنقيتها من الشوائب ونقلها من جيل إلى جيل .
خصائص الثقافة :
يمكن تحديد بعض خصائص الثقافة من خلال تعريفاتها المتعددة بصرف النظر عن محتواها من العناصر ، إضافة إلى ما خلصت إليه البحوث والدراسات في مجال العلوم الاجتماعية ، في الآتي :
1. الثقافة عملية إنسانية خاصة بالإنسان وتميزه عن الحيوان.
2. الثقافة ظاهرة عامة في المجتمعات الإنسانية ورغم ذلك لكل مجتمع ثقافته المميزة
3. للثقافة جانبها المادي وجانبها المعنوي .
4. يكتسب الشخص ثقافة مجتمعه من خلال عملية التنشئة الاجتماعية.
5. عناصر الثقافة متفاعلة ديناميكية ومستمرة .
6. الثقافة نسق معقد لاشتماله على عدد كبير من السمات المادية وغير المادية .
وظائف الثقافة :
يسعى الإنسان في صراعه مع الطبيعة إلى إحداث التكيف معها متأثراً ومؤثراً فيها تيسيراً لحياته ، وهنا يؤكد أن الثقافة هي أداته في عملية التواصل والتكيف والحياة . ويذكر عبدالله الرشدان أن الثقافة تتسم بوظائف أساسية هي :
1. تمد الأفراد بمجموعة الأنماط السلوكية لتحقيق حاجاتهم وضمان استقرارهم .
2. تتيح فرص التعاون للأفراد فيما بينهم من خلال النظم الاجتماعية.
3. تساعد على تحقيق التكيف والتفاعل وتحقق الوحدة الثقافية والتجانس .
4. تساعد على إبراز حاجات جديدة وتبتدع وسائل إشباع هذه الاحتياجات كالاهتمامات الثقافية ، والجمالية والدينية .
5. التنبؤ وتوقع الأحداث والمواقف الاجتماعية المحتملة .
السمات المشتركة بين الثقافات البشرية :
وبالرغم من أن لكل مجتمع إنساني ثقافته الخاصة إلاّ أنه توجد بعض الصفات المشتركة في ثقافات المجتمعات البشرية ، منها :
أ) وجود مستوى فني لكل ثقافة في طريقة وضع الأشياء والاستفادة منها.
ب) النظم الاجتماعية ، ومنها ، النظام التربوي ، والإداري ، والسياسي ، والديني .
ج) البناء الاجتماعي فكل مجتمع يحوي فئات مختلفة حسب الجنس والعمر ونظام القرابة ، والسكن ، وتصنع كل ثقافة قيماً ومعانٍ معينة.
د) الضوابط الاجتماعية .
لكل ثقافة معاييرها وضوابطها التي توجه وتحكم بها سلوك أعضائها ويتم غرسها عن طريق وسائط التنشئة الاجتماعية الرسمية وغير الرسمية .
الثقافة والشخصية :
يعتبر مفهوم الشخصية من الموضوعات البالغة التعقيد في مناهج ومقررات العلوم السلوكية ويواجه العلماء صعوبة في تعريف مصطلح الشخصية .
يشير المعنى العام إلى أن الشخصية تشمل كل الصفات المميزة للفرد من خلال الممارسة العامة للسلوك في أوجه الحياة المختلفة ، فيوصف الفرد بأنه مقبول أو متسلط أو انطوائي إلى غير ذلك .
ويأتي تباين تعريف الشخصية لاختلاف اتجاهات العلماء الفكرية ويذهب جوردون ألبرت معرفاً الشخصية بأنها : " التنظيم الديناميكي في الفرد لجميع مظاهر التكوينات الجسمية والعقلية والنفسية والاجتماعية التي تحدد الأساليب التي يتكيف بها الفرد مع بيئته " .
ويحدد بودون Boudon السمات الأساسية للشخصية في مجتمع ما بطابع الثقافة ويرى كاردينير Kordiner أن كل نظام اجتماعي ثقافي يتميز بشخصية مرجعية فالأنا هي عبارة عن ترسيب ثقافي .
التواصل الاجتماعي :
يشير مصطلح التواصل الاجتماعي في العلوم السلوكية باعتباره أحد عمليات التفاعل الاجتماعي Social interaction إلى العلاقة المتبادلة بين طرفين والتي تجعل من لسوك كل طرف من طرفي التفاعل الاجتماعي معتمداً على سلوك الطرف الآخر ، وتدرس هذه العمليات نوعين متداخلين من العمليات النفسية يعتمد على منها على الآخر . وبمعنى آخر يشير التواصل إلى انفتاح الذات على الآخر في علاقة حية مستمرة .
وثمة فرق بين الاتصال والتواصل ، ففي الاتصال تبنى العلاقة على أساس رغبة من أحد الطرفين تجاه الطرف الآخر وقد يستجيب ويتفاعل مع الرغبة ، أو قد يقف بعيداً ولا يستجيب . أما في التواصل فإن التفاعل أو الرغبة في المشاركة تحدث من كلا الطرفين وتنشط باتجاه تحقيق أهداف معينة ، وعليه فإن كل ما يتصل بانتقال الأفكار والمعلومات من فرد إلى آخر أو من جماعة إلى أخرى ضمن هذه العملية ، سواء أكانت هذه الأفكار والمعلومات ذات طبيعة اجتماعية أو ثقافية ، أو علمية ، وسواء كانت تتصل بالناس أنفسهم أو بالبيئة التي يعيشون فيها ، أو حتى بتواصل الإنسان مع نفسه ، وفي هذه الحالة تكون عملية التواصل باطنية داخلية تماماً ، بحيث تتم بين الفرد وذاته كما هو الحال عندما يدرس ذاته (أفكاره ، وآراؤه الخاصة ) ويضعها موضع التحليل والنقد والمحاسبة . وتعتبر اللغة المنطوقة والمكتوبة والرمزية أداة تواصل واتصال لنقل الأفكار والثقافات . ويفصل بيلز ويُقسِّم أنواع التواصل الاجتماعي إلى :
1. الاتصال الشفاهي عن طريق اللّغة .
2. الإشارات الحركية .
3. حركات الجسم المختلفة .
4. تعبير الوجه .
5. الأزياء والرموز .
مملكة الفونج :
بدأ الاتصال والتواصل بين السودان والبلاد العربية والإسلامية التي توطد ت فيها أركان الثقافة الإسلامية منذ زمن بعيد في الحجاز ، ومصر ،والمغرب ، واليمن ، وبلاد الشام إضافة إلى مناطق غرب وشرق أفريقيا وبدأ الأثر الثقافي يشق طريقه بتؤدة متدرج الخطى في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي ، واشتد اثر الثقافة وتنوعت مظاهرها في مطلع القرن السابع عشر وأحدثت أثرا بالغاً في بنية المجتمع السوداني الذي انفرد بطبيعة خاصة ساعدت علي نمو وتطور الحركة الثقافية والأخذ بيدها والعمل علي دفعها. وكان لقيام الممالك والسلطنات الإسلامية دورها في الإقبال عليها وتبنيها وامتثالها لقيم ومبادئ الثقافة الإسلامية .
نشأت مملكة الفونج كأول نظام حكم يتبنى الثقافة الإسلامية في السودان في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي على إثر اتفاق بين الفونج بقيادة عمارة دونقس والعرب بقيادة الشيخ عبدالله جماع زعيم قبيلة العبدلاب العربية . وامتدت حدودها من الشلال الثالث شمالاً حتى جبال فازوغلي جنوباً ومن سواكن على البحر الأحمر شرقاً وحتى النيل الأبيض غرباً ، وكانت سلطنة الفونج تتكون من مجموعة ممالك ومشيخات ، ومنها ما خضع للفونج رأساً ومنها ما خضع لهم بواسطة العبدلاب , والتي خضعت للفونج رأساً هي مشيختا خشم البحر والحمدة، ومملكتا الحلنقة وبني عامر . ولما دانت لهم بواسطة العبدلاب مشايخ وممالك متعددة في الجزء الشمالي من بلاد السودان وهي الجعليين والمناصير والميرفاب والشايقية والمناصير .
كان لانتقال السلطة للعرب أثره الفعّال في اختفاء بعض التقاليد الإفريقية الموروثة والطقوس المتجذرة ، إلاّ أن بقاء السلطة الدينية إلى جانب السلطة الدنيوية التي ظلت قائمة وتولى شيخ القبيلة تصريف أمورها يساعده مجلس من المشايخ يختص بألأمور الخارجية أما المسائل الداخلية فهي من اختصاص شيخ المشايخ الذي عُرف في سلطنة الفونج بأسم (المك) أو (المانجل) واستمر حكم الفونج من سنار وقري زهاء الثلاثة قرون من (1504-1762م) إلى أن ضعفت الدولة بسبب الفتن وضعف الحكم وانتشرت المحسوبية والفتن بين الحكام .
ويمثل عصر دولة الفونج أزهى العصور التي ازدهرت فيها مظاهر الحضارة الإسلامية التي عمت البلاد بفضل اهتمام ملوكها بوفادة العلماء من مراكز العلم الإسلامية في الحجاز ومصر وبغداد والمغرب ، وانتعاش حركة دينية إسلامية على أيدي صفوة من العلماء أمثال أولاد جابر الذين تعلموا بالأزهر وأنشأ تلاميذهم المدارس في مناطق مختلفة من السودان في أبي حراز والهلالية ، كما اشتهر الركابية في خرسي في كردفان والصبابي شمال الخرطوم وفي القوز الذي عرف بقوز العلم. وبرز لاحقاً رجال من المتصوفة في القوز بالقرب من شندي وعرف بقوز العلم والذي أمّه الطلاب من منطقة البديريه والشايقية في شمال السودان ومن علماء مدرسة القوز أبو سنينة والمضوي المصري وبدوي أبو دليق وباسبار السكري . ويذكر حسن مكي أن كتاب طبقات ود ضيف الله يكشف عن أهمية الحركة الفكرية في تكيف دولة الفونج ودور رجال التعليم والدعاة في إقامة تلك الدولة ويؤكد تنامي الحركة الفكرية وتأثيرها على مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويكفي أن هذا الكتاب قد أشار لسير ة 360 عالماً من أهل العلم والدعوة ويؤكد ذلك حب وتعلق المجتمع السوداني بالعلم والعلماء الذين أرسوا دعائم حركة الدعوة والتعليم في دولة سنار .
حرص ملوك الفونج على الالتزام بآداب الإسلام ، وكان الملك قائماً على أساس تحلي الملوك بالخلق الإسلامي الفاضل ، وحث رعاياهم على الصلاة ووقف حركة البيع والشراء في الأسواق وإغلاق المتاجر في أوقات الصلاة ، وكان من عادة الملك أن يجوب مملكته متفقداً أحوال الناس باستمرار حتى لا يفقد حاسة الاتصال الميداني بالناس والتعرف على قضاياهم ومشاكل مملكته .
كذلك لم يستطع الفونج أن يهملوا التقاليد التيّ ورثوها في نظم الحكم ومظاهر الحياة إلاّ أنّ سيادة أثر الثقافة الإسلامية الخالصة في جوهرها ومظهرها قد أدت إلى قيام حركة البعث الإسلامي في السودان وبهذا استرد الفرد ذاتيته وكيانه في المجتمع كما شعر بحريته بتخلصه من القهر والتسلط الذي مارسه الأقدمون من الحكام وزالت الفوارق وصار يتعامل مع حكامه بموضوعية عملاً بما كفله الإسلام له وازدهرت المملكة على عهد حكامها الأقوياء أمثال الشيخ عجيب المانجلك ابن الشيخ عبدالله جماع الذي كان حريصاً على نشر العلم فقد أنشأ ثلاثة رواقات لإيواء الطلاب في مراكز العلم في مكة والمدينة واهتم بجانب القضاء . وأصبحت سنار مركزً علمياً شامخاً تطلعت إلى مناطق السودان في الشرق والغرب .
كما امتدت حركة البعث الإسلامي إلى بلاد الجوار الإفريقية في إثيوبيا حيث اشتعلت حركة الجهاد في هرر بقيادة أحمد إبراهيم الحران (1524-1542م) وكان لها الفضل في تحرير أجزاء كبيرة من مملكة الحبشة ووصلت جيوشه إلى غندار وشارفت الحدود السودانية حتى تخوم مدينة كسلا .
ونستطيع القول أن أهم ما يميز هذه الحقبة الاستقرار والأمن واستتباب الحكم الذي أدى إلى انتشار الثقافة الإسلامية وقيام المساجد ودور العلم التي تحلق حولها الطلاب واستزادوا من العلم وشدوا الرحال إلى العلماء في أرجاء البلاد . وبذلك زاد الاهتمام بتحفيظ القرآن والعلوم الإسلامية في المساجد والخلاوى وكانت الخلوة (والمَسِيدْ)(*) هي الوحدة التعليمية والثقافية باعتبارها رمزاً تعليمياً وتربوياً إسلامياً , وهي المراكز التي تجمع حولها السكان وبمرور الزمن تطورت إلى مستوطنات بشرية قامت حولها المدن التي كان لها دور فاعل في نشر الثقافة الإسلامية ، ومن أشهر المدن العلمية والتربوية التي نشأت حولها المراكز هي.
المدن الساحلية :
قامت في ساحل البحر الأحمر مدن مثل عيذاب وسواكن بفضل الاتصال التجاري والثقافي والحضاري ، وذاع صيت عيذاب كميناء هام بعد الحروب الصليبية وعلبهم على بلاد الشام وفشل الفاطميين على حماية طرق الحج عبر سينا وفد إليها العلماء من فارس والحجاز واليمن ومصر ، وكان مسجدها الجامع يمثل بؤرة الإشعاع الديني والثقافي وقد انداح أثره إلى الداخل في مملكتي المغرة وعلوة ويذكر ابن بطوطة أن العنصرين السائدين في المدينة هما البجة والنوبة ، وقد وصفت عيذاب بأنها باب مكة واليمن والنوبة بل إن أحد قضاة عيذاب وهو الفقيه عبدالرحمن الكندي الشناوي دخل إقليم التاكا واستقر به .
مدينة سواكن :
حكمها أشراف مكة حيث آلت لهم عن طريق المصاهرة ، وكان لهم قوة تحميها من البجة أولاد كاهل وعرب جهينة ، واستولى العثمانيون عليها وأصبحت تابعة لهم وقد أسهمت سواكن في رفد حركة الإسلام في الداخل وورثت مجد عيذاب ورسالتها وانفتح المجال واسعاً لدخول العرب والمسلمين والنزوح إلى الداخل ومخالطة الوطنيين واستغلال موارد البلاد الاقتصادية مما أدى إلى تزاوج العنصرين وأسلمت قبائل الحدارية أقوى قبائل البجة ، وفي منتصف القرن الخامس عشر زادت الهجرات وأصبحت تشكل حزاماً كبيراً نحو مملكة علوة وأسست القبائل العربية مدينة أربجي التي أسسها حجازي بن معين قبل ثلاثين سنة من سقوط سوبا .
مدينة دنقلا العجوز :
أما في شمال السودان فقد نشأت مراكز ثقافية كان لها دورها الفعال في التواصل الاجتماعي والثقافي وعلى رأسها مدينة دنقلا العجوز التي انطلقت منها المدارس القرآنية التي غرست بذرة العلوم الإسلامية ومنها انطلقت إلى الداخل ، وأخذت دنقلا مكانتها بعد سقوط علوة وقيام سلطنة الفونج ، فانتشرت فيها المدارس والمساجد التي تدرس علوم الدين من القرآن الكريم والحديث ، منها المدرسة التي أسسها محمد عيسى سوار الدهب ودرس فيها التوحيد والتجويد وعلوم الحديث . ثم انتشرت مراكز أخرى عديدة في المنطقة في الشمال وحتى أربجي جنوباً .
مدرسة نوري ببلاد الشايقية :
أنشأ إبراهيم البولاد أول مدرسة قرآنية في قرية ترنج بالقرب من نوري ، وقد اشتهرت بعد ذلك وقصدها طلاب العلم من أرجاء البلاد ، ثم أسس أخوه عبدالرحمن بن جابر مدرستين في كورتي ، كما كانت لأختهم فاطمة مدرسة بالدفار أمّها طلاب عديدون ، ثم انتشرت علوم القرآن بديار الشايقية ، حتى صار أكثر الناس على إلمام بالقراءة والكتابة وحفظاً للقرآن الكريم ومعرفةً بعلوم الدين ، وشهد بذلك الرحالة بوركهارت الذي زار المنطقة عام 1813م وذكر باحترامهم للعلماء ، وقد كانت مدارس أولاد جبار تعني بالعلوم الدينية والرياضيات والفلك ، وقد بلغ آثر علومها حتى دار الأبواب والدامر الحالية ولسنار . وأنشأ أولاد حمدتو مركزاً تعليمياً قرآنياً بنوري كذلك واهتموا بتدريس القرآن ، وتعليم أحكامه .
مدرسة الحمدتياب بنوري :
أسسها أولاد حمدتو بموطنهم نوري وأم بكول بديار الشايقية ، ثم رحل بعضهم إلى عطبرة ، ويرجع تاريخ هذه المدرسة القرآنية لعبدالرحمن ولد حمدتو ، وقد اهتم شيوخ هذه المدرسة بتحفيظ القرآن الكريم وتدريس أحكامه .
مدرسة عبدالرحمن وحد حاج الدويحي بتنقاسي :
أنشأها في بلده ودَرَسَ فيها القرآن الكريم واهتم بتحفيظه ، مع تدريس علوم الدين واشتهرت وذاع صيتها فأمها الطلاب ، وقد عاصرة مدرسة عبدالرحمن ود حاج أخرى في تنقاسي أنشأها محمد بن عدلان اهتمت بتعليم القرآن الكريم .
مدرسة بربر:
كانت مدينة بربر منطقة تجارية ، وملتقى طرق ، فقصدها محمد بن علي بن كرم الكيماني المصري الشافعي المذهب وبنى فيها مسجداً درس فيه القرآن والفقه الشافعي ، وصار مركزاً عامراً قصده خلق كثيراً وتعلموا أصول الفقه والحديثً , وغدوا من بعد مشاهير ، ومنهم عبدالله العربي والقاضي دشين ، وإبراهيم العرضي ، وعبدالرحمن ولد حمدتو .
ثم تأسست مدرسة عبدالله الأغبش البديري الدهمشي لتعليم القرآن وتحفيظه وسائر علوم الدين ، وتعاقبت في التدريس فيها أولاده محمد وعبدالماجد، ثم من بعدهم أحفاده ، وظلت مدرسة الغبش القرآنية مناراً للعلم حتى عصرنا هذا .
مدرسة الدامر القرآنية :
أسسها المجاذيب ، وكانت العلوم الأساسية فيها تحفيظ القرآن الكريم وتفسيره وعلم التوحيد وقصدها الطلاب من برنو ودارفور وسنار وبلاد النوبة ، وبعد إجازتهم عادوا لأوطانهم وأشنأوا خلاويهم لتعليم القرآن وعلوم الدين .
مدرسة شندي القرآنية وقوز العلم :
مدرسة شندي القرآنية من المراكز التعليمية المهمة ، وأمها الطلاب من خلاوى الشايقية وغيرها وبرز من علمائها في تعليم القرآن الكريم وعلوم الدين المختلفة العالم أبو سنينة , والمضوي المصري , وانتشرت بمنطقة شندي مدارس قرآنية آخري وأبرزها مدرسة قوز العلم ومن علمائها بدوي أبو دليق وباسبار السكري وقد اتسعت فيها حلقات القرآن وكثر طلابها .
مدرسة كترانج :
أسسها عيسي بن بشارة الأنصاري ، ومن بعده درس فيها أولاده وأحفاده القرآن الكريم والعلوم الإسلامية ،ويرجع تاريخ هذه المدرسة إلي القرن العاشر الهجري ودرس فيها عدد كبير من الطلاب السودانيين والجبرتة من بلاد الحبشة ، وأدت دورها في تحفيظ القرآن الكريم ونشر علوم الدين واللغة العربية .
مدارس العركيين القرآنية :
أشتهرت منطقة النيل الأبيض بخلاوى القرآن التي أنشأها المسلمي وإبراهيم بن عبودي ومحمود العركي ، ويبدو أنها كانت مركزاً معروفا ً للتعليم القرآني قبل غارات الشلك عليها بسبب المجاعات التي اجتاحتها، مما جعل الحياة فيها غير مستقرة .
كما أسس محمود العركي مدرسة قرآنية بعد عودته من الأزهر كما أسس سبع عشرة مدرسة آخري بمنطقة النيل الأبيض لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم وعلوم الدين الأخرى .
مدارس الجزيرة وسنار القرآنية :
هاجر كثير من العلماء إلي الجزيرة وأسسوا فيها خلاوى القرآن التي أمّها الطلاب من مختلف الجهات . ومن أولئك العلماء إبراهيم بن نصير ، وقد كانت له مكتبتة عظيمة وأوقفها لطلاب العلم , وأسس حسن ود حسونة أكثر من عشر خلاوى قرآنية .
مدرسة أربجي:
كما أشتهرت مدرسة أربجي بتحفيظ القرآن الكريم وتدريس علوم الدين ومن علمائها أبو سنينة وحمد بن أبي زيد الحضري البصيلابي وشمو ودعدلان وكان بينهم وبين علماء سنار أتصال علمي وثيق . مدرسة أبو حراز القرآنية :
كان يدرس فيها القرآن الكريم وعلوم الدين علي عهد عبد الله العركي ، وفي عهد دفع الله بن إدريس بلغت خلاوي أبي حراز مئة وخمسين خلوة تدرس القرآن الكريم والعلوم الشريعة .
مدارس الخرطوم القرآنية :
موقع الخرطوم ونشأتها :
تقع الخرطوم علي الضفة الغربية للنيل الأزرق وتمتد في شكل مثلث رأسه في مقرن النيلين الأزرق والأبيض وقاعدته تمتد من الجريف إلي النيل الأبيض ، وموقعها عند خط عرض 36 -15 درجة شمالاً وخط طول 32-32 درجة شرا ًوترتفع 1352 قدماً فوق سطح البحر .
ويري المؤرخون أنها بدأت قرية صغيرة لصائدي الأسماك ، وجدت في التاريخ منذ أزمان سبقت قيام مملكة الفونج في عام 1504م ولكن لم تحظ بأي اهتمام إلا بعد قيام خلاوى القرآن بمنطقة الخرطوم التي أسسها إدريس بن علي المعروف بأرباب العقائد أو أرباب الخشن ، التي رحل إليها من جزيرة توتي وأوقد فيها نار القرآن . وأوقد نار القرآن وبدأ تعليم طلابه ، وأوقد نار القرآن وبدأ تعليم طلابه ، وبدأ عُمران الخرطوم , وظلت موطناً لطلابه وأحفاده ومن اجتمع إليهم ، واستمر بها تعليم القرآن وازدهرت فيها الخلاوي حتى سقطت دولة الفونج .
وقامت في تلك الحقبة ست مدارس قرآنية ذائعة الصيت أسسها الشيوخ وأمّها الطلاب وبقيت آثرها التعليمية والتربوية والاجتماعية باقية لفترة طويلة .
مدرسة اسلانج القرآنية :تقع الجزيرة إسلانج في شمال مدينة الخرطوم وقد أسس أول مسجد بها حمد النجيض الجموعي في عهد عجيب المانجلك , ودرس بها القرآن الكريم ومن بعده أبنه وآخرون , واشتهرت الجزيرة إسلانج بتعليم القرآن الكريم وأمها طلاب للعلم والمريدين للطريقة القادرية فتلك الفترة اشتهرت بتداخل التصوف وتعليم علوم الدين ، ففي عهد الأمين أم حقين السماني الطريقة أشتد اهتمامه بإحياء نار القرآن وزاد عدد طلابه ومريديه بهذه الجزيرة .
مدرسة الحلفايا القرآنية :
قبل قيام دولة الفونج أو في مستهلها اتخذ الشيخ البنداري الحلفاية مقراً لتعليم القرآن الكريم ، كما درس فيها إدريس ود الأرباب ، كما شهدت جهود أبناء عون الضرير لإنشاء المساجد والخلاوى وتعليم القرآن فيها . ومن أبرزها خلوة أبناء الفقيه أبو سرور الفاضلي ، كما أشتهر مسجد الحلفايا باستقطاب العديد من المشائخ والذين درسوا فيه لأوقات طويلة منهم موسي الجعلي وحمد بن حميدان وضيف الله ، وكانت العلوم الأساسية فيه القرآن الكريم وعلوم الشريعة .
مدرسة الصبابي :
حضر حمد ود زروق من حضرموت , وأنشأ خلوة في الصبابي لتعليم القرآن الكريم والتف حوله طلاب العلم من جهات مختلفة ، وممن درس القرآن الكريم عليه إدريس ود الأرباب .
مدرسة إدريس ود علي (أرباب العقائد) القرآنية :
بدأ تعليم القرآن بتوتي وحين انتقل إلي الخرطوم كثر طلاب خلوته وقد ازداد سكان الخرطوم وعمرت أسواقها ، وصارت لخلوته صيتاً جعل حلقة دراسية عامرة بالحيران والمريدين .
وقد اشتهر بتدريس العقائد وسمي لبراعته فيها (أرباب العقائد) وأتي طلابه من دار الفونج وبرنو ، ومن ضمن تلاميذه شيوخ اشتهروا بعلوم القرآن والشريعة , ومنهم خوجلي وحمد ود أم مريوم وفرح ود تكتوك وغيرهم ، وصار اسم مدرسته مدرسة مسجد ود أرباب , والذي هدمه الدفتردار حتى ينصرف عنه الطلاب ، ووجد الباحث لوحة أمام الجامع المعروف (بجامع فاروق) بالخرطوم تشير إلي أنه مسجد أرباب العقائد , ولكن حدث الباحث رجل مسن أن الشيخ أرباب العقائد بني مسجده وخلوته بالقرب من حلة القوز .
مدرسة حمد ود أم مريوم القرآنية :
أنشأ خلوته في الخرطوم بحري , واشتهرت وأمها طلاب كثيرون، وقد اتسعت حلقة درسه وأهتم بتدريس النساء حتى زاد عددهن علي الرجال , وتجاوز أثر هذه المدرسة فوصل إلي دارفور .
مدرسة القوز القرآنية :
تقع في الجهة الغربية من الخرطوم , وأسسها محمد بن سالم , والذي ينتسب من جهة أمه لأولاد جابر , وأهتم فيها بتحفيظ تلاميذه القرآن الكريم وتدريس علوم الدين .
سلطنة الفور :
قامت علي الأطراف الغربية من السودان الشرقي إقليم دارفور الحالي , والراجح أن قيام هذه المملكة كان في نهاية القرن السادس عشر الميلادي , ومدينة الفاشر هي عاصمة هذه السلطنة طوال تاريخها, وقد أهتم الملوك هذه الدولة بالدين الإسلامي واستجلبوا العلماء وأرسلوا التلاميذ إلي الجامع الأزهر بمصر لتلقي العلوم الدينية , وشجع سلاطينها دارفور العلماء من أجل تعزيز دولتهم فأقاموا الخلاوي التي كانت لها دورها في التنظيم الاجتماعي عند قبيلة الفور , ثم خضعت لنظم الحكم الثنائي التعليمية , وعرف الفور في بداية خلاويهم نظام الخلاوى المهاجرين والتي اهتمت بتحفيظ القرآن الكريم , ومن أبرز خلاوى الفور خلوة كريو وهي من مراكز علوم القرآن وخلوة قرية جديد السيل وخلوة الجوامعة بكوبي والتي درس فيها القرآن غرباوي الجامعي .
مملكة تقلي :
نشأت في منطقة جبلية بجبال النوبة في جنوب كردفان وصلها رجل فقيه متجول حوالي عام 1530م ، ويدعي محمد الجعلي الرباطابي ومعه آخر يدعي أبو هيامة , وكانت مملكة وثنية استقرا بها وقاما بالتبشير بالإسلام بين أهلها وقامت في المملكة المساجد وكثرت خلاوى القرآن الكريم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر .
انتشرت في مملكة تقلي الإسلامية الطرق الصوفية , وصار لكل طريقة خلاوى للقرآن الكريم ومساجد يشرف عليها أحد المشايخ , وتلك عناية بالقرآن وتحفيظه للطلاب وبعلوم الدين , كما اهتمت الأسر الكبيرة بتعليم القرآن الكريم لأفرادها من رجال ونساء فكانت توجد بالمنـزل الواحد (تقابتان) ، إحداهما للرجال والأخرى للنساء .
وقد انتشرت تقابات القرآن الكريم بجبال تقلي , حتى أن المتجول بين القرى ليلاً لا يحتاج لضوء بل يكفيه ضوء نيران القرآن , ومن أقدم خلاوى القرآن فيها خلوة محمد نجر بأم شطور وخلوة ود الأفندي .
مملكة المسبعات :
أما مملكة المسبعات فهي المملكة التي نشأت في إقليم كردفان ، وترجح بعض الروايات أنها قامت في الفترة التي تقع بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر بواسطة مجموعات عربية هاجرت واستقرت في تلك المنطقة ، وكانت مدينة الأبيض هي عاصمة هذه المملكة . والمتتبع لتاريخ هذه المملكة يجده عبارة عن سلسلة من الحروب بين أطراف ثلاثة هي الفور والفونج والمسبعات , وكان هدف طرف من الأطراف هو السيطرة علي إقليم كردفان . وهذا الأمر أدي إلي انعدام الاستقرار السياسي وبالتالي أدي إلي انعدام وجود هيكل إداري وأنظمة ومؤسسات سياسية أياً كان شكلها مضمون .
مملكة المسبعات هي أول مملكة سودانية تصل إلي عاصمتها جيوش الغزو التركي وتخضعها بالرغم من مقاومة ملكها (المقدوم مسلم) الذي واجه جيش الغزو التركي في معركة بارا عام 1821م . وفي عام 1883 تمكن جيش الأنصار من تحرير الأبيض من قبضة الحكم الثنائي , وظل هذا الإقليم تابع للدولة المهدية إلي أن جاء الإنجليز عام 1898م واستعمروا السودان.
انتشار الإسلام وتأصيل العقيدة :
الإسلام ظاهرة حضارية متكاملة ومتداخلة جاءت إلي السودان بكلياتها وانتشرت في الوقت الذي كانت هذه المنطقة مستعدة فعلاً لتقبل تغير حضاري جذري . فقد اعتنق السودانيون هذا الدين الجديد منذ بداية اتصالهم به كأفراد . وما يعرف عن الإسلام وانتشاره في السودان أنه جاء بدون سلطة سياسية وبدون حركة تبشيرية , بل جاء وانتشر تلقائياً بين الأفراد والجماعات والدلائل الأثرية في مواقع بلاد النوبة تشير إلي أن النوبيين أنفسهم قاموا بنشر الإسلام بعد أن تحولوا عن المسيحية وهذا التحول شمل فيما بعد مراكز القيادة المسيحية ونشأت المماليك الإسلامية.
رغم أن الممالك والسلطنات الإسلامية التي قامت علي أنقاض الكيانات المسيحية كانت ذات طابع إسلامي وملوكها أبدوا اهتمامهم البالغ بأمر الدين إلا أننا نجد أن العقيدة لم ترسخ في أذهان السودانيين , وهذا يرجع أساساً إلي أن الإسلام انتشر بواسطة التجار والبدو وهم جماعات تفتقر للمعرفة العميقة بالعلوم الفقهية المتعلقة بالدين الإسلامي , وقبل قيام الممالك والسلطنات الإسلامية هناك دور محدد لعبه بعض علماء الدين في تعميق العقيدة الإسلامية , إلا أن موجات العلماء تدفقت أثناء قيام الممالك الإسلامية , وأصبحت هناك مراكز علمية خاصة في دولة الفونج تخرج منها عدد لا يستهان به من الطلاب الذين تلقوا علوما دينية وهم بدورهم أصبحوا شيوخ لمراكز أخري وهكذا فضلا ًعن ذلك أرسلت مجموعات طلابية من سنار وأخري من دارفور إلي مصر لتقلي التعليم الديني في الأزهر الشريف وتكونتا ما يسمي بالرواق السنارية ورواق دارفور .
الطرق الصوفية :
بعد أن وجدت الطرق الصوفية طريقها إلي السودان أصبحت تلعب دوراً بالغ الأهمية في نشر وتعميق الإسلام حيث اتبعت هذه الطرق أسلوب تعليمي مبسط وجاذب يتمشي مع عادات ومزاج السودانيين , وكان شيوخ الطرق الصوفية من العارفين بالله والزاهدين في العبادة وحب الله ورسوله فمثلوا نموذجاً جيداً لرجل الدين الإسلامي ولذلك اجتذبت الطرق الصوفية المتعددة أعداداً هائلة من السودانيين تحت ألويتها وكانت نواة التجمع الصوفي شيخ الطريقة الذي يجتمع إليه الناس في أخوة مكونين جماعة روحية خالصة علي اختلاف مشاربهم، ويصبحون تحت لواء الشيخ جماعة واحدة تربط بينهم طريقة روحية أصلية تزرع القيم الفاضلة وتنمي شخصياتهم بما يحقق ذواتهم ومن هنا اكتسبت الشخصية السودانية أهم سماتها ، فكان الناس يفدون للشيخ إدريس ود الأرباب في العيلفون من دنقلا والمحس ، واتسع مكانه وتمدد, كما ألتف الناس حول الشيخ المجذوب في الدامر حتى أصبحت مشيخته أكبر مركز وأصبح أهلها أسرة واحدة .
وأخيراً يمكن أن نلاحظ أن الإسلام في السودان استطاع أن يستوعب الكثير من السمات السودانية ويتعايش مع هذا المحيط الخاص بما فيه من تنوع .
الخاتمة :
أخذ التيار المركزي الإسلامي حركة الثقافة الإسلامية في السودان وساعده علي انتشارها ، وانتقل المجتمع من وهدة تخلف الوثنية المضطربة إلى مجتمع يسعى للنماء والتطور ويستقي القيم والمبادئ من الشريعة الإسلامية التي تعتبر مرجعيته الأساسية . ونشأت ممالك وسلطنات في السودان كمملكة الفونج أو السلطنة الزرقاء وسلطنة الفور والمسبعات وتقلي وكان لها دورها في بسط قيم العدل والمساواة والحرية والسلام والأمن والتكيف والتوافق الاجتماعي بين الناس .
قاد الرواد المصلحون من العلماء والدعاة والمرشدين حركة التعليم ومفاهيمها الناهضة وساعدوا علي تركيز أصول الفكر الإسلامي وتطبيقاته في الحياة العامة وبهذا توحدت لغة التواصل حيث أصبحت اللغة العربية هي لغة التخاطب المشتركة في الفكر والثقافة بعد أن كانت هنالك لهجات متعددة .
وأصبحت مدارس العلم التي أنشاها الرواد والتي عُرفت بالخلوة ( الكتاب ) في دنقلا وسواكن وبلاد الشايقية ، والدامر ، وشندي ، وتوتي واربجي ، والعيلفون والحلفايا وكترانج وغيرها . أصبحت مراكز للتعليم تجمع حولها الناس وأصبحت نواة للعمران ازدهرة الحياة الاجتماعية ونشطت حولها التجارة وتأسست القرى والمدن .
شكلت الثقافة الإسلامية بنية الشخصية السودانية وأكسبتها السمات التي تميزها والتي تمثلت في بنائها البدنى والعقلي والنفسي والاجتماعي والأخلاقي والذي تفاعل مع الثقافات المكتسبة في حركة دينامكية متفاعلة وفاعلة في محيطها الاجتماعي .
المصادر والمراجع
سورة البقرة ، الآية 30 .
سورة الأعراف ، الآية 74 .
Hall 1966) The hidden dimension, new York double day
عبدالرحمن أحمد عثمان ، البنية الإفريقية والبنيات التحتية لكليات الاقتصاد .
الناصر أبو كروق ، مدينة عطبرة ، المطبعة الحكومية ، الخرطوم ، 2005 ، ص 16 .
لويس معروف ، المنجد في اللغة ، طبعة جديدة ، ب ، ت ، ص 752 .
شرف الدين إبر اهيم بانقا ، إدارة المدينة الإسلامية بين مفاهيم الأصل والعصر ، هيئة الأعمال الفكرية ، 2004م .
Wirth, Louis. Urbanism as a way of American Journal. Vol. 44, 1988, sociology.
عبدالرحمن أحمد عثمان ، مرجع سابق ، ص 47 .
موسى الأمين الزبير ، أضواء على التخطيط المدني ومشكلات الخرطوم الكبرى مثالاً ، مجلة دراسات إفريقية ، العدد 41 ، يونيو 2009م ، مركز البحوث والدراسات الإفريقية ، جامعة إفريقيا العالمية ، الخرطوم ، ص 139 .
Taylor. E Dward. BURNETT 1931 Primitive culture, London .
مالك بن بني ، شروط النهضة, ترجمة كامل مستكاوي وعبد الصبور شاهين , دار الفكر , القاهرة , 1969م , ص 125. .
إبراهيم ناصر ، علم الاجتماع التربوي وقضايا الحياة التربوية المعاصرة ، مكتبة الفلاح ، الكويت ، 1998م ، ص 93 .
عاطف وصفي ، الأنثربولوجيا الثقافية , دار الثقافة بيروت 1978 , ص 92.
علي أسعد وطفه , علم الاجتماع التربوي وقضايا الحياة التربوية المعاصرة , مكتبة الفلاح , 1998, ص 93.
المرجع السابق , ص95.
سميرة أحمد السيد , علم اجتماع التربية , دار الفكر العربي , القاهرة , ط1 , 1993م, ص 43-44..
مرجع سابق , ص 100-101.
مرجع سابق , ص 48.
. يعرفها المؤرخون بالسلطنة الزرقاء أو سلطنة الفور .
حسن مكي محمد أحمد ، ص 38 – 39 .
نفسه ، ص 40 – 42 .و Adams W. Y. Nubia as a Corridoor pf Africa , London, 1977, p. 16 – 60.
(*) يعادل (المسيد) الكُّتاب في الدول الإسلامية .
حسن إبراهيم حسن ، تاريخ السودان الحديث ، الجامعة المفتوحة ، 2006م ، ص 38 .
يحي محمد إبراهيم ، تاريخ التعليم الدين في السودان, مطبعة جامعة الخرطوم , 1979, ص 18 .
محمد ود ضيف الله ، الطبقات ، تحقيق يوسف فضل حسن ، 1982م ، ص 81 ، ص 142 .
أحمد محمد سيداب ، دراسات سودانية ، جامعة بخت الرضا ، 2007م ، 39 – 42 .
قرية تقع شمال الخرطوم بحري والآن من أحيائها الراقية
ابن خلدون ، المقدمة ، دار الجيل ، د . ت ، ص 2 .
حسن مكي محمد أحمد ، مرجع سابق ، ص 21 ، ص 247 .
سعاد عبدالعزيز أحمد ، قضايا التعليم الأهلي في السودان ، ج1 ، دار جامعة الخرطوم للطباعة ، 1990م ، ص 15 .
مواضيع مماثلة
» محمود درويش يحن الى خبز امه في السودان
» ادريس جماع اسم لايسقط من شعراء السودان
» تاجوج ومحلق.. سطرا أكبر قصة عشق في تاريخ السودان
» ادريس جماع اسم لايسقط من شعراء السودان
» تاجوج ومحلق.. سطرا أكبر قصة عشق في تاريخ السودان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين أكتوبر 14, 2013 12:48 am من طرف عامر عثمان موس
» البشير يساه في تغير مجري نهر سيتيت ب
الإثنين أكتوبر 14, 2013 12:45 am من طرف عامر عثمان موس
» سدى اعالى نهر عطبرة وسيتيت من الخيال الى الواقع
السبت مارس 16, 2013 5:23 pm من طرف د.محمد يوسف
» ان لله وانا اليه راجعون
الأربعاء يونيو 20, 2012 10:07 pm من طرف ودالصافي
» محمد حسن مرعي يكمل نصف دينه
الإثنين مارس 05, 2012 3:13 pm من طرف ودالصافي
» إنجاز غير مسبوق
السبت مارس 03, 2012 3:50 am من طرف خالد حسن
» عزاء واجب
السبت يناير 28, 2012 3:11 am من طرف خالد حسن
» سلامات ودالخليفة
السبت يناير 28, 2012 3:01 am من طرف خالد حسن
» مطربة اريتريا الاولى هيلين ملس في منتدى ودالحليو
الأربعاء يناير 04, 2012 5:21 am من طرف Adil
» ودالحليو يابلدي
الخميس ديسمبر 15, 2011 1:07 am من طرف نجم الدين عبدالله محمد
» منح دراسية
الأحد ديسمبر 04, 2011 11:56 pm من طرف Idris
» جقرافية ودالحليو
الأحد نوفمبر 20, 2011 4:58 am من طرف عامر عثمان موس
» سعدت كثيرا عندما قرات هذا العنوان منتدي ابناء ودالحليو
الخميس نوفمبر 03, 2011 8:07 pm من طرف مثابه ودالحليو
» خيرات سد نهر سيتيت
الأحد سبتمبر 25, 2011 3:46 pm من طرف عامر عثمان موس
» محادثات باللغة الانجليزية بالفديو
الأحد سبتمبر 25, 2011 3:14 pm من طرف عامر عثمان موس
» عجبت لهذا في هذا الزمان
الثلاثاء يوليو 12, 2011 8:10 pm من طرف نزار محمود
» محاضرة عن الارقام للاستاذ حسب الله الحاج يوسف
الإثنين يوليو 04, 2011 10:21 pm من طرف وضاح حسب الله الحاج يوسف
» الف مبروك للاخوين الصادق والطاهر عبدالله الطاهر
الأربعاء مايو 18, 2011 2:25 am من طرف ودالصافي
» ابو بكر مرعي عريسا
الأحد مايو 15, 2011 10:49 pm من طرف ودالصافي
» انا لله وانا اليه راجعون
الخميس مايو 12, 2011 5:06 am من طرف Idris